منذ ما يربو على العقد من الزمن، وأنا على وصل واتصال دائمين بنشاط الشباب الإبداعيين الكويتيين خاصة والعرب عامة. ويأتي ذلك نتيجة قناعتي بأن المستقبل ملك للشباب، وأن شباب اليوم هم ذخيرة الغد، وأن النتاج الإبداعي الشبابي يمثل الروح المتوثبة والخارجة على أطر السائد شكلاً ومضموناً. كما أنني مقتنع بأن جزءاً من مهمة أي أديب إنما يتمثل في حرصه على رعاية وتشجيع المواهب الشبابية، والأخذ بيدها لحين تأكيد حضورها الإبداعي، وبلوغها المكانة التي تؤمّن بقاءها على الساحة الأدبية والثقافية.
"عائشة تنزل إلى العالم السفلي" رواية بثينة العيسى الخامسة، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بطبعتها الأولى 2012، تضيف رصيداً روائياً لمسيرة بثينة العيسى، التي تعد بحق أحد أكثر الأصوات الروائية الشبابية تميّزاً على الساحة الكويتية والعربية. تفتتح بثينة روايتها بتنويه يقول: (هذه الرواية مستوحاة من قصة حقيقية، وقد كُتبت بتواطؤ صريح من شراسة الواقع ومجاز المخيلة) ص7، ولأنني أرى أن الرواية بخاصة والفن بعامة هو حياة مجاورة لحياة الواقع، حياة تقدم عالمها الخاص والحي والحقيقي، القائم بالضرورة على تحقق فنية وشروط الجنس الروائي، بقدر نهوضه على الإقناع بإمكانية تحققه كواقع قائم بذاته. فإن التنويه السابق، لم يقدم للنص إضافة بقدر ما أثقل عليه، بجعل القارئ في سؤال دائم للبحث عن إمكانية تحقق الفني في الواقعي، وأظن أن عقد هذه المعادلة لم يأت لمصلحة الرواية. وإذا ما أضيف إلى ذلك عنوان الرواية بصيغته الناجزة، بحتمية نزول عائشة بطلة الرواية إلى العالم السفلي، وأن الرواية جاءت بصيغة سرد ضمير المتكلم، فإن القارئ يدخل الرواية بوعي البحث عن تحقق كل من العنوان والتنويه. الرواية، وبلغة شعرية شفيفة، تتناول تفجع امرأة كويتية شابة في الثالثة والثلاثين، بسبب موت ولدها الوحيد في حادثة، وكيف أن حياتها العادية انتهت يوم موته، لتصبح جلداً للذات، وبحثاً دائماً لنيل الموت على أمل اللحاق به. وانه سبق للأم، في ذكرى يوم موت ولدها، أن ذاقت طعم الموت ثلاث مرات متتالية، لكنها تفاجأ في كل مرة بعودتها إلى الحياة، لذا فإن عائشة تظهر في بداية الرواية متأكدة من تحقق موتها بحلول يوم ذكرى موت ولدها، ولأنها متأكدة من ميتتها هذه المرة، تسعى لكتابة تجربة حياتها البائسة، خلال أسبوعها الأخير الممتد من 10 أبريل 2011 حتى 17 أبريل 2011: "أنا عائشة. سأموت خلال سبعة أيام. وحتى ذلك الحين قررت أن أكتب... لقد قررت أن تكون أيامي الأخيرة على هذه الشاكلة. أقصد: شاكلة الكتابة". ص11 الرواية في صفحاتها الأولى تقدم مرارات وجزعا وتفطر قلب أم بفقدان وليدها الصغير، ولقد حوت هذه الصفحات من مشاهد الوجع الشيء الكثير، حتى ان القارئ ليحتاج طاقة كبيرة تمكنه من اجتياز هذا الألم الإنساني الرهيب. الذي يأتي مدعّماً بعشق الموت، عبر استشهادات كثيرة لشعراء وفلاسفة ترد على لسان الراوية، حتى ليبدو في أكثر من موضع، صوت المؤلفة ولغتها طاغياً على صوت الراوية الساردة للرواية. الرواية، تبدأ في درب، لتنتهي في درب آخر مخالف تماماً لتوقع القارئ، فعائشة الباحثة عن الموت والنازلة إلى عالمها السفلي، ينتهي بها المطاف، بمساعدة أخيها المتدين، وقد صعدت إلى سطح الحياة، وتطهرت من عقدة ذنبها بمرورها الذهني بميتات سبع، وعادت إلى سوية الحياة والعلاقة بزوجها وأمها وأخيها وأختيها. وكأن الكتابة كفعل إنساني قادرة على انتشال صاحبها من طريق موته، والعودة به إلى جادة الحياة. بثينة العيسى في روايتها الأخيرة، وعبر لغتها الروائية الآسرة، تقدم وجهاً شبابياً مشرقاً من وجوه الإبداع الروائي الكويتي.
توابل
عائشة... بثينة العيسى!
24-01-2012