الصراع على مصر
لطالما كان الصراع على الدول المحورية التي تمر بحالات تغيير عميقة صراعاً خارجياً في الأساس؛ فالقوى العظمى الدولية، والمصالح الإقليمية الفاعلة، تجتهد عادة لتجد موضعاً ضمن التركيبة الجديدة في الدولة التي تشهد تحولاً، بما يحقق لها أكبر المنافع، ويدفع عنها الأضرار، لكن مصر تشكل حالة فريدة في هذا السياق.تشكل مصر حالة فريدة حقاً في هذا السياق؛ إذ يبدو أن المجال الخارجي ينأى بنفسه عن انخراط واضح في محاولة تشكيل البيئة الحاكمة الجديدة في هذا البلد، في ما يحتدم الصراع داخلياً بين عدد من القوى الفاعلة الراغبة في تشكيل المستقبل وفق أجنداتها ورؤاها الخاصة.
يمتد الموقف الأميركي الملتبس والحذر والمراوغ حيال نظام الرئيس السابق حسني مبارك، ليشكل صورة تفاعلاته الراهنة في فترة الانتقال الديمقراطي في مصر، في ما تقف أوروبا الغربية، وكذلك روسيا والصين على الحياد تقريباً.ورغم أن "مصر الجديدة" التي ستنشأ عبر مخاض صعب ومضطرب تُسمع أصواته، وصرخاته، بوضوح الآن، سوف تصوغ علاقة جديدة مع إسرائيل، يبدو أنها ستخصم من مصالح تلك الأخيرة كثيراً، وقد تعرضها لبعض الأضرار، قياساً بشهر عسل طويل امتد أكثر من 35 عاماً مع الدولة العربية الأكبر والأهم، فإن الدولة العبرية تبدو في قمة درجات السكون والحذر تجاه تفاعلات هذا المخاض الصعب.الأمر ذاته يمتد ليشمل فاعلين إقليميين مهمين؛ أحدهما الجار الإيراني الذي أغرته "أوهام ثورية" و"صور طارئة" في ميادين الثورة المصرية، ليشطح بالخيال، قبل أن تعيده التركيبة الصعبة للواقع المصري إلى التزام السكوت والانتظار، أما الفاعل الآخر وهو الجار التركي؛ فلم يخرج أبداً عن تحسبه واكتفائه بالأمنيات الطيبة وتقديم عروض بتبادل الخبرات.لا شك أن موقف دول الخليج العربية أكثر وضوحاً مقارنة بالجيران الآخرين في الإقليم، بالنظر إلى طبيعة العلاقات العميقة التي تربط مصر بشقيقاتها الخليجيات.وباستثناء قطر الطامحة عادة إلى لعب أدوار إقليمية فوق الطاقة والإمكانات، مدفوعة خصوصاً بشعور واضح بالارتياح لإطاحة نظام سابق لم يكن على وفاق معها في الغالب، فإن دول مجلس التعاون الخمس الأخرى لم تجتهد لتمضي قدماً في سياسة رمت في الأساس إلى دعم الصديق والحليف السابق مبارك في موقفه الصعب الراهن.يبدو أن الثورة المصرية أقنعت الجميع في الخارج بقدرتها على قيادة التحول بمنأى عن الاستعانة بمساعدة أي قوى غير وطنية، وفي حدود لا تسمح بتغييرات حادة وعميقة في السياسة الخارجية، وبالتالي لا تستنفر الآخرين، أو تدعوهم، أو تستفزهم، للمخاطرة بالانخراط في الورشة الوطنية الصاخبة المنعقدة على مدار الساعة منذ 25 يناير الماضي، لترتيب الأوضاع في مصر ما بعد مبارك، وبناء الدولة الجديدة. ويبدو أيضاً أن الزخم الثوري، الذي ترافق مع حريات واسعة في الإعلام والتعبير المباشر عبر أدوات السياسة والاحتجاج والتظاهر، لا يسمح بأي دعم أو اتصال خارجي واضح ومعلن، قد يُفهم على أنه تدخل في الشأن الداخلي، وهو أمر يعرف الجميع أنه يسبب حساسية للمصريين في شتى الأوقات، خصوصاً في وقت يزدهر فيه الشعور بالعزة والاستقلال والفخر الوطني.الصراع على مصر الجديدة يحتدم داخلياً في الأساس، بين ثلاث قوى رئيسة، ليس من بينها المؤسسة العسكرية، على عكس ما يعتقد كثيرون.تعمل المؤسسة العسكرية المصرية الآن بهدف واضح من دون طموح أو رؤية، ويتضح أن بيان مهمتها لا يتجاوز المحافظة على مقدرات الدولة، والإشراف على عملية الانتقال الديمقراطي، وتسليم البلاد إلى سلطة مدنية منتخبة في أقرب فرصة ممكنة، مع خروج مشرف آمن لقياداتها، وضمان قاطع يحفظ للجيش مزاياه وحظوظه ووضعه الخاص، ويضمن له الحصول على الشكر والثناء الواجبين، لدوره المشرف في تجنيب البلاد فظائع واختلالات يشهدها بعض الجيران، وهو أمر ليس محل شك حتى اللحظة على أي حال.تبقى القوة الفاعلة الأولى كامنة، وتتمثل في قاعدة النظام السابق وآلياته التي تظهر تجلياتها من حين إلى آخر في "الفتن" و"البلطجة" و"تعميق الاضطراب" والإعلام و"محاولة إعادة إنتاج الأوضاع السابقة". لا شك أن تلك القوة لا يستهان بها، لأنها كرست مصالحها ووجودها في ظروف مواتية وبحظوظ كبيرة على مدى ثلاثة عقود، لكنها، على أي حال، لن تكون قادرة على فعل الكثير، في ظل قاعدة ثورية كبيرة ممتدة في أعماق البلد، لا تمل أبداً من التأكيد على إقصاء النظام السابق وأدواته مهما كانت الأثمان.وإذا استقام هذا التحليل، فيبدو أن الصراع الحقيقي على "مصر الجديدة" بات منحصراً في الأساس بين قوتين رئيستين؛ إحداهما قوى سياسية ذات إسناد ديني، ممثلة في "الإخوان المسلمين" وغيرها من الجماعات الإسلامية التي وجدت أزهى عصورها بعد إزاحة النظام القامع السابق، أما القوى الأخرى فليست إلا طيفاً عريضاً من القوى السياسية المدنية الممثلة في الأحزاب المدنية القديمة والمستجدة، والنخب الليبرالية والعلمانية واليسارية، وقاعدة كبيرة من المصريين المستنيرين الذين يرغبون في الانتماء إلى دولة حداثية عادلة ورشيدة.في الأسبوع الماضي، حسم المجلس العسكري أحد أوجه الصراع الرئيسة بين القوتين المتصارعتين على "مصر الجديدة"، الذي كان قد تجلى في الاختلاف حول "الدستور أولاً" أو "الانتخابات أولاً"، حين أعلن عن "حل وسط"، يلتزم فيه بالانتخابات أولاً كما سبق وقرر، وفي الوقت ذاته يشرف على إصدار "وثيقة حكيمة" تحدد سبل اختيار اللجنة المنوط بها وضع الدستور، ومن ثم التأكيد على بعض "القيم فوق الدستورية"، التي يمكن لأي متابع مدقق أن يعلم أنها ليست سوى بعض الضمانات التي تؤكد مدنية الدولة وعدم "تديينها" عبر دستور يهيمن على وضعه برلمان أغلبيته من الإسلاميين.لعوامل كثيرة انحصر الصراع على مصر في الداخل، بعدما اقتنعت القوى الخارجية بنجاعة المراقبة والانتظار، في مقابل تدخلات قد تكون محفوفة بالمخاطر ومؤكدة الفشل، ولعوامل أخرى يبدو أن الصراع الداخلي انحصر بين قوى الإسلاميين من جهة، والقوى المدنية الليبرالية واليسارية الراغبة في رؤية بلادها في مصاف الدول الحداثية المتقدمة، وتفادي الانقسام والارتداد والدخول في متاهات عرفتها دول أخرى هيمنت عليها شعارات الظلاميين وأوهامهم.* كاتب مصري