سلالم النهار
لو كنت مكان القاصة فوزية شويش لاخترت أن أقسم أحداث رواية "سلالم النهار" على روايتين لا واحدة. ذلك أن ما تطرحه عبارة عن سياقين متوازيين، الأول يتعلق بظاهرة "البدون" كمجموعة بشرية لها إشكالاتها وظرفها الحياتي ووضعها المربك وعلاقاتها القلقة في نسيج المجتمع. أما السياق الثاني للرواية فهو يتعلق برحلة اكتشاف الذات "لفهدة" بطلة الرواية، ونموها في المسلك والمعتقد من الشهوانية / الحسية المحضة إلى الروحانية الخالصة، عبر معترك من التجارب والترحال النفسي والجسدى. وهكذا يشعر القارئ بأنه يسير على جادتين أو يتنزه على ضفتين باحثاً –سدى- عن جسر للعبور! وفي رأيي أن تناول الكاتبة لظاهرة "البدون" بحد ذاته يمس قضية حيوية قلما ناقشتها الروايات أو ألقت عليها هذا الضوء الساطع والتفاصيل المنسوجة بأناة وجرأة وصبر. فالكاتبة قالت كل شيء دون عمليات تجميل أو ترميم لواقع فاقع في صدقه ورثاثته وتعقيده، ووصفت أولئك الهامشيين / المهمّشين الذين يعيشون على حافة الحياة كيفما اتفق، يتعلقون بخيوط واهية من أمل الكينونة والانتماء. وإن حصل ذلك فبأشق السبل وأكثرها مهانة ووصولية!
هكذا انتمت "فهدة" من فئة البدون إلى "ضاري" سليل الحسب والنسب والجاه، وكان الطريق عبر عرض الجسد الراقص في سهرة خاصة كانت الطُعم الذي جرّ إلى زواج غير متكافئ، يتم التحايل عليه بالسرية والتكتم، زواج لا هدف ورائه غير المتعة الخالصة والشهوانية المحضة. وحين يموت "ضاري" فجأة تظل "فهدة" رغم موته متشبثة بالطعم عن طريق ما قرّ في رحمها من ولد سيذوق لاحقاً مرارات التمزق بين نسب أبيه ونسب أمه: بين التبجح بالجاه والنفوذ الذي يمثله عمه، والتخبط بالوضاعة والرثاثة التي يمثلها خاله، بين البذخ والغطرسة التي تغوص فيها جدته لأبيه، والادعاء والتحايل على العيش الذي تتعثر فيه جدته لأمه. وأمام هذا التصدّع الوجداني والنفسي تثور نفس هذا الابن "المهجّن"، فيرى من خلال غضبه وألمه أنه -رغم هذا الاختلال في القيم– فإن الانقلاب على هذه المنظومة غير العادلة لابد أن يأتي. فيطلق حينها هذه الصيحة المتوعدة: "أنا الفيروس القادم الذي سيعيد التوازن لحياتكم، والذي سيحقق منطق العدالة بينكم. أنا فيروسكم القادم يا عمي ويا خالي، فانتظروا ساعة قيامتي ووقت انتشاري". وتبدو الرسالة واضحة من خلال إيمان الكاتبة بأن صلات النسب رغم ما تخفيه تحت رمادها من جمر وإحن، قد تصلح حلاً لقضية بهذا التعقيد والإرباك. حين نأتي إلى ضفة الرواية الأخرى، التي اعتنت بتتبع رحلة الذات لدى "فهدة" في نموها وتشكلها عبر أتون من التجارب والمعارف، نقابل بجملة من الإشكاليات، منها اختفاء الحدود الفاصلة بين ذات الشخصية الروائية وهي "فهدة" وبين ذات الكاتبة، ففهدة بخلفيتها المثقلة بالشعور بالدونية والهشاشة والتواضع المعرفي والفكري، نراها تسهب في التفاصيل عن هندسة مدينة باريس وأسماء حدائقها، وتستطرد في نقد أشعار لنزار قباني وإيراد نص لبودلير وآخر لرابعة العدوية، فضلا عن اتحافنا بتفاصيل متحف "اللوريتزم" ومحتوياته! فهل هذه ثقافة "فهدة" ومعارفها؟! أم هي استعراض لمعلومات الكاتبة واطلاعاتها وأسفارها دون دواعٍ فنية، الأمر الذي شكّل ثقلاً إضافياً على كاهل الرواية والقارئ. أما الثقل الآخر على كاهل الرواية فهو "الإيروتيكية" المبالغ فيها، وملء الرواية بصخب جنسي عارم، وجر القارئ وراء مشاهد وتفاصيل لا تضيف بعداً حقيقياً للأحداث أو الشخصيات، كالحديث عن المثلية الجنسية في بداية الرواية أو التفصيل حول محتويات متحف "اللوريتزم"... إلخ. وقد أشارت الكاتبة في إهدائها لي إلى منع الرقابة للرواية! وعلامة التعجب الواردة لا تشير إلى تعجبي من مسلك الرقابة، وإنما من مسلك الكاتبة في تعريض عمل جيّد لهذا اللون من التجني، بسبب بضع جمل أو مشاهد ليست بذات قيمة فنية! بيد أن أبدع أجزاء الرواية وأكثرها ثراءً في الأسلوب والحسّ الوجداني والبعد الوجودي، تبدأ من صفحة 145. إنه المنقلب الآخر لحياة "فهدة"، وهي تكتشف روحانيتها الخالصة، أما اللغة في هذا الجزء فتكاد تكون شعرية خالصة، ليس بمفرداتها فقط وإنما بتلمسها للشفيف والجواني والغامض من النفس البشرية حين تسطع في آفاقها أنوار أخرى للمعرفة والشغف. ولو كنت مكان الكاتبة لبدأت روايتي من رأس صفحة 145.