فانيليا
حرصت في سفرتي الأخيرة إلى القاهرة على شراء روايات متميزة لكتاب الرواية المصرية من الشباب، حتى أطلع على إبداع الأجيال التي أعقبت الأسماء المشهورة لجيل الستينيات والسبعينيات وأقارن اختلافات الكتابة فيما بينهم.ومن هذه الكتب اخترت رواية «فانيليا» للكاتب الطاهر شرقاوي، وهو كاتب لقصص قصيرة وفانيليا هي روايته الأولى، وكنت قد التقيت به في ندوة سابقة كان فيها إبراهيم عامر، وحمدي الجزار، والصديقة الروائية بثينة خضر، كانت الندوة مفيدة ومهمة فهي ناقشت تجربة الجسد في الكتابة التجريبية، وذلك عن طريق استخدام شبكة الخلايا العصبية والحسية وضخ أحاسيسها في الكتابة، وكنت قد كتبت في هذا الموضوع وطرحت فكرته أكثر من مرة، وتمنيت أن أجد مَن يشاركني في طرحي هذا، أو أن نقوم بالمشاركة في ورشة فنية تعتمد تماما على هذه الفكرة حتى تتضح ويتجسد مفهومها لدى الكتاب، وفرحت حين وجدت من يشاركني التجربة ذاتها واكتشاف طريقة عملها.
وهذا ما وجدته في رواية فانيليا المليئة بفورة من الأحاسيس الآتية من شبكة وخلايا الأعصاب الحسية، لدرجة تشعر القارئ بكل المشاعر وبكل التوترات النابعة من الجسد، مما ينعكس على القارئ بحالة من الحميمية التي لا يدرك فيها مصادرها ولا أسبابها، سوى أن هذه المشاعر تكاد تلتصق به وتنط على كتفيه وتندس في قميصه، توشوشه، تهمس في أذنه وفي روحه وقلبه، بالرغم من أن هذه الرواية لا تنطبق عليها شروط الرواية، فهي ليست إلا مشاهد متقطعة ليس لها تصاعد درامي أو حبكة، لكنها كتابة حلوة وبريئة وطازجة، كما أنها بسيطة وعفوية تشبه لغة الصبيان والبنات فهي تعكس روحهم وأحاسيسهم بالرغم من «عاديتها» استطاعت نقل أحاسيس مَن يعيشها.كتابة لذيذة، وأسميها كتابة لا لغة جميلة، لأنها كتابة عكست طريقة تفكير مؤلفها بشكل جديد معاصر وحداثي.الجزء الأول من الرواية أو من النص القصير جدا يتناول مشاهد لحكايات للبنت وللولد من دون أن يسميهما الكاتب باسم، مجرد تفاصيل لحياة تشعر القارئ بالإحباط وبالشجن وبالهامشية، حياة تتسرسب منها الآمال والأحلام بلا سماء واعدة.الجزء الأخير من الرواية فيه ثلاثة مشاهد عن ثلاثة عجائز أُضيفت كملحق للرواية، وهو عن المرأة التي تعتني بالقطط، والرجل الذي كان يشتغل كحارس أمن، والمرأة التي مثلت مشهدا يتيما في فيلم. وكل من الجزء الأول من الرواية والثاني لا يمنح إلا هذه الأحاسيس الغامضة والموحية بالعدمية وبلا أمل في أي شيء كان.واسم فانيليا تولد من هذه الفقرة «أما يدها فكانت نحيفة وصغيرة بدرجة مدهشة، والله العظيم نحيفة، وأصابعها رقيقة جدا، تشبه يد البنت التي تشتغل في محل الحلويات، وتفوح من جسمها رائحة الفانيليا، لكنها في نفس الوقت كانت قادرة لأن تحتوي في قبضتها على قلب من الإسفنج، وتعصره بلا شفقة حتى آخر قطرة».رواية مليئة بالمشاهد التي تفسر العالم بروح طفولية، بعضها يشبه الأفلام الكرتونية مثل البومة البيضاء والخرتيت والديناصور والذئب الأسود، الموحية بانعكاسات عميقة.كما أن الرواية لا تحدد مسميات للأشخاص ولا طبيعة العلاقة التي تربطهم ولا ماهية حياتهم أو طبيعة أماكنهم، لكنها تقوم بتجاور تفاصيل المشاهد وبالإيحاء الذي يمنح القارئ حرية الفهم والتركيب.فشخصيات الرواية بلا أسماء وكذلك الأماكن، لكنهم قد يكونون معارف أو أهلاً أو سكاناً في حي أو في عمارة، علاقات تمر بصور عابرة بلا أي ترابط فيها، قد تجد حياة مشابهة لها عند أي قارئ لها.رواية فانيليا صوت جديد في الرواية المصرية الحديثة، وهي تعكس كتابة الشباب خريجي معاهد السينما، وتأثرهم بالمنهاج السينمائي واضح جدا في كتاباتهم.يبقى أن أقول إنها كتابة حديثة وجميلة لفت نظري فيها كثرة استخدام الكاتب لكلمة «بص» التي كان بإمكانه أن ينوع في استخدامه لمرادفاتها فهناك مثلا: نظر، تطلع، أبصر، رنا، حدق، خز، بحلق، يشوف، رأى، الخ... بدلا من تكرار الكلمة، لكن يبدو أن الطاهر شرقاوي قد كان مبهورا بالكلمة وعاشق لها.