تمر الذكرى السنوية العاشرة لعدوان "القاعدة" على أميركا وقد تغير العالم العربي، وأصبح يموج بثورات الربيع العربي ويتلمس طريقاً للتقدم، السؤال النهضوي الكبير قبل قرن: كيف تقدم الآخرون ونهضوا بمجتمعاتهم؟! ما زال مطروحاً يشكل هماً لمفكرينا وتحدياً لمجتعاتنا المتعثرة.

Ad

 في مقالاتي السابقة: أسمى المبادئ وأسوأ الأوضاع، وحصون التخلف، والتسامح بين مثالية التنظير وفقر الممارسة والتدبير، ومن آفات الثقافة العربية، عرضت جملة من إجابات مفكرينا حول معوقات النهوض العربي بين من رأى في تجذر الاستبداد علة كبرى معوقة ومن ذهب إلى أن العقلية العربية المحكومة بالماضي هي علة الإخفاق الكبرى، وانتهيت في مقالتي الأخيرة إلى رأي المفكر السعودي إبراهيم البليهي الذي شخّص معضلة التخلف في "الثقافة العربية" بالدرجة الأولى باعتبارها "العلة الأم" للعلل الأخرى: السياسية والفكرية والاجتماعية والتعليمية.

 إذ يؤكد البليهي أن التخلف السياسي وكذلك الفكري والتنموي إنما هو ناتج من نواتج التخلف الثقافي، وبالتالي فإن الذين نقدوا العقل العربي، وأبرزهم المفكر المغربي الجابري- رحمه الله- في رباعيته النقدية إنما نقدوا المنتج الفكري، وهم يقصدون نقد مصنع الإنتاج؛ ألا وهو الثقافة العربية التي تصوغ وتحكم العقلية العربية، وتشكل نظرة العرب إلى الشعوب الأخرى، كما تحدد منظومتهم القيمية وعواطفهم وسلوكياتهم.

 فالثقافة المجتمعية تهيمن على عقول الأفراد ومشاعرهم، وهي

أشبه بقوالب للتفكير والوجدان، والاستبداد التاريخي الراسخ في التربة المجتمعية، وكذلك التأزم السياسي المتطاول قروناً متلاحقة ما هو إلا قطاع واحد متأزم من الكل الثقافي المتأزم، وإن كان قطاعاً فاعلاً ومؤثراً.

 ومع أن الثقافة العربية هي الأسبق وجوداً من أنظمتها السياسية إلا أن الأنظمة العربية نجحت في استثمارها لترويض شعوبها وتطويع مجتمعاتها، كما وظفت القيادات الثقافية والدينية بهدف استدامة السلطة، فأصبحت متحكمة بالثقافة تصوغها وتشكل توجهات الناس السياسية والاجتماعية، وهذا هو مصدر الخلل الأساسي في المجتمعات العربية، فإذا تحررت الثقافة من تدخلات الساسة والسياسة صارت قادرة على التفاعل مع معطيات العصر ومنفتحة على الثقافات الإنسانية المعاصرة؛ لأن الثقافة عقل الأمة، فإذا أشرق هذا العقل أشرقت الحياة وازدهر المجتمع وارتقت الأوضاع.  إصلاح الثقافة وخطابها إصلاح لكل القطاعات الأخرى: الفكرية والأخلاقية والعلمية والتعليمية والإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.

 وإن آفات الثقافة العربية عديدة ذكرنا منها في المقالة السابقة، آفة طمس الروح الفردية ونستكمل هنا آفة أخرى هي "آفة تقديس السلطة والصراع عليها"، فيرى البليهي: أن "السلطة" في الحياة السياسية العربية وفي ثقافة العرب هي القيمة المحورية التي تتفرع عنها بقية القيم، وآفة حب السلطة والاقتتال المرير من أجلها لازمت العرب أينما حلوا وارتحلوا، فقد حكموا الأندلس 8 قرون، ولكن بسبب التنازع على السلطة ضاعت منهم إلى الأبد.

 وطيلة التاريخ العربي كانت التغيرات السياسية تأتي نزاعاً على السلطة، فالتاريخ العربي لم يعرف الثورات الاجتماعية إنما كانت تحصل التقلبات من أجل إزاحة زعيم وإحلال آخر أو محق أسرة حاكمة وإحلال أخرى، بحيث يصح القول إن تاريخ العرب السياسي إنما هو تاريخ لسلسلة من الصراعات على السلطة والاستحواذ عليها عبر الثلاثية التي عبر عنها الجابري: الدين، القبيلة، الغنيمة، بل حتى الانقلابات العسكرية العربية قبل نصف قرن كانت نزاعاً على السلطة لا محاولة للتغيير إلى الأفضل، بل اللاحق يكون أسوأ من السابق.  فالسلطة هي القيمة المركزية في الثقافة العربية، وكل ما عداها ما هو إلا وسائل للوصول إليها، وقد تأسست الثقافة العربية منذ الجاهلية عليها بسبب الصراع وإرادة استئصال الآخر المنافس؛ لأن البيئة الصحراوية جعلت الدنيا لدى العرب لا تتسع إلا لفئة واحدة، فخلقت فيه هذا التمحور حول الذات، فكانت الحياة صراعاً مريراً من أجل الاحتفاظ بالعيش بالتنافس على موارد الماء الشحيحة، ومن كان يرد إليها أولاً فإنه لا يبقي شيئا لمن بعده!

 وكان شاعر القبيلة يتفاخر بأنه أول من يرد إلى هذا الماء الشحيح! لذلك لم يكن العربي يعتز بانتمائه إلى العرب إنما إلى القبيلة، وحتى داخل القبيلة الواحدة كان الصراع والتفاخر بين الأفخاذ، فالفرزدق وجرير ينتميان إلى قبيلة واحدة ومع ذلك كان التهاجي بينهما من أقذع الهجاء!

 لقد كان الصراع هو القاسم المشترك بين القبائل، فلم يتكون لدى العربي انتماء قومي أو وطني، إذ كان يفتخر بقبيلته أو عشيرته فقط، فالعربي لم يعرف معنى الأمة إلا بالإسلام الذي أخرجه من جدب الصحراء إلى الخصب والنماء، لكنه ظل مأخوذاً بمنطق القوة والصراع والاستئصال.

 وأعطت الثقافة العربية مشروعية دائمة لهذا المنطق، وجعلته سبباً كافياً للمشروعية السياسية والطاعة لمن غلب! حتى قال شاعر العربية الأكبر:

وإذا خلا الجبان بأرض                   طلب القتال وحده والنزالا

 وفي المأثور العربي "إنما العاجز من لا يستبد"، كما قال المتنبي:

والظلم من شيم النفوس فإن             تجد ذا عفة فلعله لا يظلم

 وعندما انتصر العباسيون فرشوا البسط على القتلى وراحوا يأكلون فوق الجثث إمعاناً في الانتقام والتشفي، وحين انتصر المأمون على أخيه الأمين سلخ جلده كما يسلخ الخروف!

 وإن قيمة السلطة في الحس العربي تعلو أي قيمة أخرى، وكأن لسان الحال يقول: ما دام أن الفعل الشنيع حصل لأجل السلطة فإن هذه القيمة العليا تبرر كل فعل مهما بلغت شناعته! ولذلك فإن التاريخ العربي يمر بأحداث شنيعة مثل قطع رأس الحسين والطواف به في الأمصار، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وصلب ابن الزبير، واستباحة المدينة، يمر بهذه الفظائع كأحداث عادية وعابرة!

 وإن حب السلطة والمال والجاه والنفوذ أعطب العقل العربي، وأفسد الأخلاق، وحجب الكثير من بهاء الإسلام، وأورث الشخصية العربية خللاً عميقاً سوغ الفصل بين القول والفعل "كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ"، وجعلها أسيرة التفكير الثنائي، فأصبحت ترى أن كرهها مثلاً لأميركا يبرر الكف عن فظائع صدام، ورأينا تكالب رجال القانون والعدل للدفاع عنه دون تأنيب ضمير لمقابره الجماعية!  كما شاهدنا نقيب اتحاد المحامين العرب يهرول إلى السودان مدافعاً في تجاهل لضحايا دارفور! وتهافت مثقفون عرب وتقاطروا على جوائز القذافي ومجدوا كتابه الأخضر ورواياته واعتبروه روائياً عظيماً! لا غرابة فهم كأسلافهم من الشعراء والكتّاب الذين زيفوا الوعي العربي دون أن يحسوا بأي ذنب، فسياقهم الاجتماعي والثقافي يستسيغ ذلك، ويكفي أن نتذكر أن شاعر العربية الأكبر كان يوزع مدائحه على من لا يستحق، ولم يكن يبحث عن المال فقط إنما كان يستجدي بقية من سلطة مهما كانت حقيرة!  فالثقافة العربية لم تكن تستنكف مدح الجبابرة والمستبدين والعابثين وتوارث الأخلاف ذلك عن الأسلاف، فأصبح سلوكاً سائغاً بل سلوكاً يتباهى به صاحبه بقدر قربه من السلطان، ولو كان بالمدح الكاذب! ومن شواهد هذه الازدواجية أننا نفطن للفظائع التي تحصل من الآخر، ونتجاهل ما يحصل منا سواء في الماضي أو في الحاضر، إذ لم تكن ثقافتنا تستنكر الغزو بل كانت تراه طبيعياً، فالدنياً قائمة على التغالب "فهي لمن غلب"، بل حتى داخل المجتمع العربي أوجب الفقهاء طاعة المتغلب حقناً للدماء.

وقد اعتدنا في ثقافتنا أن نتحاكم إلى القوة، فالعلاقات كلها قائمة على السيطرة ابتداءً من علاقة الزوج بزوجته والأب بأولاده والمعلم بتلاميذه والرئيس بمرؤوسيه في تناقض لتعاليم الإسلام، فالسلطة في الأمم المزدهرة وسيلة وليست غاية، فهي قيمة تابعة وليست مقصودة لذاتها؛ بخلاف الثقافة العربية التي أعلت من شأن السلطة وجعلتها محور القيم، ومع ذلك فإن مؤهلات الوصول إليها ليست بالكفاءة والقدرة والإخلاص والصلاح، إنما بلوغ هذه السيادة لا يتطلب سوى إشباع البطون أو قطع الرؤوس كما قال شاعرهم:

 لولا المشقة ساد الناس كلهمُ           الجود يفقر والإقدام قتال

 ولذلك فإن قابلية التشرذم هي امتياز عربي، وذلك بسبب التنازع على السلطة والتزاحم على الوجاهة، والتدافع على النفوذ وحب المال حباً جما، ولا خلاص من هذه الآفة إلا بتفعيل آلية تصحيح الأفكار والأوضاع، وتقوية النزعة الفردية في المجتمعات العربية.

* كاتب قطري