هل الأصولية-السلفية عائق التقدم الاجتماعي والسياسي؟
إن مفاهيم الديمقراطية على مر التاريخ وبين الحضارات، تتناقض فيما بينها تبعاً للوضع الاجتماعي السائد في كل شعب، وفي كل فترة. فلا نفزعنّ من عدم اتفاق الفكر العربي بيساره ويمينه، بتقليدييه وليبرالييه على مفهوم محدد للديمقراطية، وعلى معنى واحد للديمقراطية، فلكل مجتمع من المجتمعات البشرية خصوصيته .
يرى المفكر التونسي العفيف الأخضر أن وظيفة المثقف هي الدفاع عن الحقيقة ضد الغوغاء (الجماهير)، وعن العقل ضد النقل، وعن التفكير ضد التكفير، وعن التجديد ضد التقليد، وعن الحداثة ضد "القدامة"، وعن الصيرورة ضد الاستمرارية، وعن المتغيرات التاريخية ضد الثوابت العابرة للتاريخ؛ أي الصالحة- زعماً- لكل زمان ومكان، وعن التقدم المعرفي والاجتماعي ضد التمسك السقيم العقيم بما قبل العلم وقبل التاريخ، وعن ضرورة نقد الذات لجعلها معاصرة لعصرها ضد تمجيد الذات النرجسي المتخلف والمُخلِّف للوعي، وعن الأممية ضد المركزية الإثنية، وعن الانتماء فكراً ووجداناً للقرية الكونية ضد الانطواء الفصامي على الهوية، وأخيراً الدفاع عن الحضارة ضد السقوط في الهمجية.التشريع الاجتماعي والحداثةفي التشريع الاجتماعي، يحاول الحداثيون التنويريون، وضع الشريعة الإسلامية في التاريخ، مثل أي ظاهرة اجتماعية- ثقافية، لها بداية ولها نهاية. بدايتها تعود إلى الشرائع الوثنية التي قامت على مبدأ الانتقام من الجاني "العين بالعين والسن بالسن... إلخ"، كما صاغها حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.ومن هذا المنطلق، يتعرض الحداثيون لموضوع العقوبات الاجتماعية التي جاءت بها الأديان، ومن ضمنها عقوبة الزنى مثلاً، التي تعتبر من عصر الحضارات الزراعية البطريركية، ولهذه العقوبة تحليلان اقتصادي ونفسي، أما الاقتصادي فيقول إن انتقال البشرية من المشاعية إلى الحضارة الزراعية القائمة على المُلكية الخاصة، أفضى إلى امتلاك الرجل للمرأة. وفي سفر التثنية، تعتبر الزوجة مملوكة والزوج مالكاً. وقتل الزوج لزوجته إن زنت، هو الدفاع عن المُلكية الخاصة، وجريمة من جرائم الشرف. أما التفسير النفسي الذي جاء به فرويد، فهو يتلخص في أن الطفل بين الثالثة والخامسة، يستأثر بأمه، ويُقصي أباه عنها. وهذا الانفعال الكظيم، يرافق الرجل طوال حياته.التشريع وفلسفة الأنوارومنذ ظهرت فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر، التي جعلت من نقد الوهم الديني أحد أهدافها، شرع بعض الفلاسفة يشككون في جدوى عقوبة الزنى. فقامت فرنسا في 1791 بإلغاء عقوبة الزنى، وقامت الثورة الروسية في 1917 كذلك.ومن الملاحظ، أن حدَّ الرجم لم يأتِ ذكره في القرآن الكريم، حيث جاءت آية الرجم لأيام، ثم نُسخت، ومن المعروف، أن الفراعنة هم الذين أقروا قتل الزانية، وأن العبرانيين أخذوا عن الفراعنة، والبابليين أخذوا عن العبرانيين، ثم خففوه إلى جدع الأنف، وخفف الإسلام الجدع بمئة جلدة، ولكن بشروط.المرأة في مرآة الأصولية-السلفية في هذا العصر، أصبحت المرأة مكروهة للأصوليين-السلفيين، إلى درجة القتل، ومن هنا يرى بعض المفكرين السياسيين العرب، أن الأصولية-السلفية، تعتبر عائقاً للتقدم الاجتماعي من حيث هي شمولية في التفكير والممارسة لأنها أرثوذكسية. وهذا يعني في السياق الإسلامي، أن دينها هو وحده الدين الحق، وأنها هي الفرقة الناجية الوحيدة، وككل أرثوذكسية تقوم الأصولية-السلفية على حقيقة مطلقة عابرة للتاريخ؛ أي صالحة لكل زمان ومكان، لا يحق لبشر مساءلتها، أو التشكيك فيها.فالأرثوذكسية دائماً تفتيشية، لأنها تُخضع البشر إلى قوالب لاهوتية أو إيديولوجية جامدة، تعتبرها المقياس الأسمى للحقيقة، وكل خروج عليها يُقاس كخروج على قانون مقدس، وكأي أرثوذكسية تفرض على الناس أدواراً حديدية مرسومة بدقة، لا ينبغي للناس الخروج عليها.الأصولية-السلفية عائق سياسيهل هناك معنىً واحد للديمقراطية سواء في خطاب اليمين، أو اليسار الإسلامي؟من المتفق عليه، أن الديمقراطية منذ عهد الإغريق إلى اليوم، كانت مُنتجاً اجتماعياً وثقافياً، وأنها تتُشكِّل وتتهيأ وفقاً للمجتمعات التي تعيش فيها والتي تطبقها، فهي لا تقوم من فراغ بل تُمارَس ضمن واقع اجتماعي محدد، وفي إطار مرحلة تاريخية معينة.فالديمقراطية الأوروبية مثلاً، تختلف في معناها ومبناها عن الديمقراطية الأميركية، والديمقراطية الإنكليزية، تختلف عن الديمقراطية الفرنسية، والشورى في العهد الراشدي- التي يحلو لبعض المفكرين الإسلاميين المستنيرين من أهل اليسار أن يطلقوا عليها "ديمقراطية"- تختلف عن الشورى التي مارسها الأمويون، والعباسيون، ومن جاء بعدهم. وفي عام 1950 وجهت هيئة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، أسئلة إلى أكثر من مئة عالم ومفكر سياسي واجتماعي واقتصادي حول تعريف للديمقراطية، وكانت الإجابة بألا تحديد واحداً، ولا مفهوم شاملاً لمعنى الديمقراطية، بل إن مفاهيم الديمقراطية على مر التاريخ وبين الحضارات، تتناقض فيما بينها تبعاً للوضع الاجتماعي السائد في كل شعب، وفي كل فترة. فلا نفزعنّ من عدم اتفاق الفكر العربي بيساره ويمينه، بتقليدييه وليبرالييه على مفهوم محدد للديمقراطية، وعلى معنى واحد للديمقراطية، فلكل مجتمع من المجتمعات البشرية خصوصيته، ولكل مجتمع تبعاً لذلك، آلياته الديمقراطية المختلفة، شرط أن تصب هذه الآليات في النهاية ضمن الإطار العام للديمقراطية، وهو "حكم الشعب لنفسه ولصالحه". إلا أن بعض المفكرين يرد هذا التنوع، وهذا الاختلاف، إلى التطبيقات الديمقراطية المختلفة، وليس إلى المفهوم الديمقراطي، فجوهر المفهوم الديمقراطي واحد.الديمقراطية في عهد هيمنة العسكرمن الواضح في النصف الثاني من هذا القرن- الذي يُطلق عليه "عصر هيمنة العسكر والدولة التسلطية" في رأي المفكر الكويتي خلدون النقيب- أن الأحزاب والجماعات الإسلامية، كانت تُخفض جناح المعارضة للأنظمة الملكية، أكثر مما تُخفضها للأنظمة الجمهورية، فلم تكن الأحزاب والمنظمات الإسلامية في الخليج العربي على عداء كبير مع الأنظمة، كما كانت في الجزائر، وسورية، والعراق مثلاً. ولم تكن هذه الأحزاب والمنظمات في الأردن، والعراق الملكي، والمغرب، على عداء مع أنظمة الحكم، كما كانت على عداء مع أنظمة الحكم في مصر، وسورية مثلاً؛ ولهذا كله جذوره ومرجعياته في التاريخ العربي والإسلامي، فالسُنَّة التي تُشكِّل الأغلبية العظمى من الأحزاب والمنظمات السياسية، كانت طوال تاريخها إلى جانب الشرعية المتمثلة بالخلفاء، والملوك، والحكَّام. وفي القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، تعززت هذه العلاقة بين المفكرين السياسيين من السُنَّة، وكان على رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني، الذي توَّج الملكية ونصَّبها كنظام سياسي وحيد، يصلح لهذا الشرق، وذلك مداراةً للخديوي توفيق (1852-1892) رغم أن هذا الخديوي كان عدواً لدوداً للديمقراطية.فهل تعود الآن الأصولية-السلفية، لتكون عائقاً جديداً من عوائق التقدم الاجتماعي والسياسي، كما كانت في القرنين الثامن والتاسع عشر؟*كاتب أردني