كانت الندوات الاثنتا عشرة تدور حول محور «الربيع العربي»: تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سورية. وتتسع لأنظمة لم تكن استبدادية، ولكن أبناءها يتطلعون لأفق عدالة وحرية أرحب. وكان مثقفو الندوات على اتفاق بشأن العناصر التي شكلّت لوحةَ هذا «الربيع العربي»: 1 ـ سلطة استبدادية تواصل انتزاع الحرية، والكرامة، ولقمة العيش من شعوبها دون رادع. 2 ـ احتمال نافد لدى هذه الشعوب يجعلها تنتظر اشتعال الفتيل. 3 ـ اندلاع الثورة الشعبية. 4 ـ استعدادات شرسة للسلطة الاستبدادية. 5 ـ ثقة الثورة بالنفس تضعف فلا تجد ضيراً من الاستعانة بقوى دولية. 5 ـ عون خارجي، سياسي، أو عسكري. 6 ـ الإطاحة بالسلطة الاستبدادية، والسعي لنظام دستوري برلماني... إلخ.
هذه العناصر قد تتخذ ألواناً إقليمية متنوعة. فتونس اكتفت بدعم العالم الخارجي السياسي، لا العسكري، لأن آثار المؤسس بورقيبة، الذي وُفّق في بناء دولة عصرية، لم تُقتلع من الجذور بفعل انقلاب عسكري ـ حزبي دموي. الأمر الذي حدث مع انقلابي البعث في العراق وسورية، أو القذافي في ليبيا. كما أن العزة الوطنية، والثقة الفتية بالنفس، قد تحول دون الاستغاثة وطلب العون من دعم خارجي، ولكن ما إن تُكشّر سلطةُ الاستبداد عن أنيابها الحقيقية حتى يصبح طلبُ العون مشروعاً، والدعمُ الدولي واجباً إنسانياً. أما الفوضى التي تنتاب المسعى التالي للثورة باتجاه الديمقراطية فسمة تكاد تكون واحدة لدى الجميع. دعك عن بروز التوجه الديني، وسيادته الانتخابية.هذه العناصر لا شك تيسر الحديثَ عن مشهد «الربيع العربي». ولقد وضح هذا اليسر على مدى الندوات في أيامها الثلاثة. ولكن الشيء الذي لم يتّضح هو الغياب المطلق لحدث التغيير في العراق عن بال المتحدثين والمتحاورين. وأنا على يقين بأني لو طرحت تساؤلي هذا على أحد منهم لن أحصل إلا على هذه الإجابة التي ستبدو منطقية تماماً: ألا ترى بأن حدث التغيير في العراق قد تمَّ على يد قوات أجنبية، ولم يكن وليد انتفاضة كالتي شهدناها في تونس، مصر، ليبيا..؟ ثم إن حدث التغيير هذا يبعد عن هذه الأحداث بأكثر من تسع سنوات؟ولكن إجابة منطقية كهذه لا تبدو لي وافية، لأن المثقف حين ينجح في رسم مشهد «الحدث التاريخي» فلأنه يعتمد علاقات العناصر الأساسية في هذا المشهد، مهما كانت متفرقة ومتباعدة ومتعارضة في عين المشاهد العادي. صحيح أن حدثَ التغيير في العراق قد تمَّ في مرحلة سابقة لأحداث «الربيع العربي» المتتالية، وأنه أُنجز على أثر تدخل عسكري خارجي مباشر، ولكننا نستطيع بيسر أن نلملم عناصر المشهد العراقي لنرى مقدار تطابقها مع عناصر «الربيع العربي» التالية: فصدام حسين كان أعتى سلطة استبدادية دون أدنى شك. والاختناق العراقي قد بلغ منتهاه، ولا تنقصه إلا القدحة التي تشعل الفتيل. وقد حدثتا في 1991 بصورة درامية دامية: حققت للأكراد حماية وشبه استقلال عن الحكومة المركزية، ولكنها لم توفر حماية أو دعماً للبقية التي استطاع الدكتاتور سحقها بيسر. وثق الناس بقوتهم، ولكنهم حين تبيّنوا استحالة ذلك ناشدوا العالم، فلم يستجب العالم إلا بعد سنوات. سقطت السلطة الاستبدادية، وبدأ السعي، الذي يتسم بالفوضى، لبناء نظام دستوري برلماني...عناصر التغيير الستة التي تشكل مشهد «الربيع العربي» هي هي في مشهد التغيير العراقي. ولكنها هنا متفرقة في المكان والزمان بصورة مربكة، في حين تبدو منتظمة ومتتالية هناك. والسبب لا غموض فيه، فالعراق ينفرد وسط عالمه العربي بغزارة التنوع الإثني، الديني والطائفي بصورة لا مثيل لها. الأمر الذي يستدعي بالضرورة علاقات بين عناصر المشهد بالغة الاضطراب والتعقيد.أعيدُ القول بأن الاضطراب في علاقات هذه العناصر بعضها ببعض قد يُضعف رؤية المشهد عند الإنسان العادي، ولكنه لا يجب أن يفوت بصيرة المثقف المعنيّ بإعادة تنظيم عناصر المشهد، مهما حلَّ بها من اضطراب وبعثرة في الزمان والمكان.
توابل
على هامش ندوة القرين الثقافية (2)
26-01-2012