... قلت في حديثي السابق إننا، نحن الكتاب العراقيين، أو العرب جملة، "يجب أن نحتكمَ إلى النظر في الداخل. يجب ألا نأتمن موهبتَنا، وعيَنا، ثقافتَنا، تربيتَنا الروحية. كيف يمكن أن نأتمن، ونحن ولِدنا ونشأنا وصرنا نكتبُ داخلَ نفقِ مرحلة بالغِ العتمة، بالغِ الإيهام، وبالغِ القسوة في سحق فرادة الإنسان. الدولةُ الاستبدادية تريد "مواطناً" صالحاً على هواها، لا إنساناً يتمتع بفرادته. الشاعر يطلع من هذه الفرادة.

Ad

نعم، الشاعرُ يخرج من فرادة موهبته. وهذه الأخيرةُ تخرج من نضجِ وعافيةِ فرديته. وهذه الفرديةُ هي أول ما يسعى الحكم الاستبدادي إلى محقها. إن "المواطن" الصالح الذي يريده، أو يعيد صياغته، هو رقمٌ في قطيع. رقمٌ في كتلة. وبالتالي فإن "الشاعر" الذي يتولّد داخلَ هذه الصيغة هو، بالضرورة، رقمٌ في كتلة، ولكن بصيغة يُسعفها الخيالُ بأجنحة طائر شمعية. فالكتلةُ هنا تأخذ معنى "الجيل" بصورةٍ مفتعلةٍ وقسرية.

الستيني كان ثوريَّ المرحلة. والحضورُ كليُّ القدرة للهيمنة الثورية تعاملت بشيء من الاستبداد مع "فرادة" الموهبة، و"فردية" حاملها. سعت إلى خلق "جيل" مُعزز الحضور عالمياً، من أجل أن تستلبَ من الموهبة الفردية فيه فرادتَها. حاولتْ ذلك بقدر من النجاح، ولكن بقدر من الفشل أيضاً، لأن الستينيَّ ولد داخلَ مرحلة متعافية لها امتداد قبله، لم ينل منها الاستبدادُ الثوري (استبداد الأحزاب)، واستبدادُ السلطة التالية (بعد نجاح الانقلابات العسكرية الثورية) بعد. ومع ذلك، حين تقول "فلان من الجيل الستيني"ـ فإن فلانا أقل وزناً من كلمة ستيني. وحين تقول إن فوزي كريم من موقعي "البيان الشعري" فإن اسم الشاعر يبدو هامشاً زمنياً على متْنٍ غير زمني!

مع مجيء البعث إلى العراق، وتسلّلِ سلطة صدام حسين القاهرة للهيمنة المطلقة على الحياة، عرفتْ هذه الحياة الصيغةَ المتكاملة لمعنى السلطة الاستبدادية، المالكة لكل شيء، ولكل حي. وصارت هذه السلطة تحسبُ ألفَ حساب لـ "فرادة" الموهبة و"فردية" حاملها. ووجدت، بوعي يكاد يكون غريزياً، أن اقتلاع جذر هاتين سيتم بيسر عبر هيمنة كلمة "الجيل". وأقول بيسر لأن الأمر ستقوم به وسائلُ الإعلام الثقافية التي بيد السلطة: صحف، مجلات، إذاعة، تلفزيون، مهرجان... وسيتكفل النقادُ بالضرورة بتوفير مزيد من المصطلحات المشروعة والنافعة: الجيل السبعيني، الجيل الثمانيني، الجيل التسعيني، (لم أسمع بعد بالجيل العشري، من القرن الجديد... ولكني سمعت بجيل ما بعد 2003)، والحداثة الثانية، الحداثة الثالثة... إلخ.

سيكون من النادر أن تجد شاعراً في هذا النفق المعتم، يتأملُ عميقاً، وفي العزلة التي توفر قدراً من المناعة، ملامحَ "فرادة" موهبته، وفرديته. خاصة وأن السلطة الشمولية لم تُفرغْ كلمة الجيل من معناها، ولم تُلغِ الفرادةَ والفرديةَ من الموهبة ومن شاعرها فقط، بل عززت اللمساتِ الإيديولوجية المقدسة في كل ملامح التوجهات الفكرية والإبداعية، مثل الحداثة، ما بعد الحداثة، البنيوية، التفكيكية، السائد والمُهمّش... إلخ. عززت هذه التوجهات لأنها تعرف أنها شكلية، وأن جذورها الحية في تربة نائية وغريبة. ولا يمكن أن تُعطي إلا ثماراً من ورق ملوّن.

صارت الموهبة الفتية، بعد أن تُكمل عُدّة الولادة والنشوء داخل النفق، تنعم بما تعتقد أنه غنيمة: انتسابٌ لجيل جاهز، مع مؤونة جاهزة من المزايا التي تفوق الحداثة الغربية ذاتها. محض ظاهرة شكلية، مفرغة من المعنى، وسائبة الأطراف.

مشهد لا شك محزن. إلا أنه مشهد ليل لا يخلو من تألق نجم هنا، ونيزك يعبر خاطفاً هناك. قلت هذا لأصدقائي الشبان وسط مدعوي مهرجان النجف الثاني. وطمّعتُ كلَّ واحد منهم أن يكون هذا النجم، أو ذلك الكوكب. كلُّ واحد منهم يملك الموهبةَ المُبتغاة، ولكن من يملك العزلةَ التي تؤهله لرؤية "فرادة" موهبته، داخل فرديته المصانة، ذات المناعة؟

في الصباح الذي تلا زمنَ اللقاء الشعري النجفي، كانت سيارة ابن أخي تقطع جانبَ "دار السلام"، حيث أسلافي الموتى، باتجاه أهلي الأحياء في بغداد.