لم أكن أتصور حين بدأت تلك الحملة التحفيزية المصغرة على شبكة الإنترنت للدعوة إلى الإيجابية أن أواجه هذا العدد الكبير ممن لا يدركون المعنى الصحيح لمصطلح "الإيجابية"، فيقابلون نشاطي بالاستهزاء، بل أحيانا بالهجوم، متهمين إياي بتسطيح الأمور وتخدير الوعي وتغييبه عن إدراك الواقع وما تحيق به من صعوبات ومشاكل وآلام!

Ad

لكن من يظن حقا أن الإيجابية هي هكذا يا سادتي، يظلمها والله ظلما كبيرا، لأنها أبعد ما تكون عن هذا التصور.

الإيجابية لا تعني مطلقا أن يخدع الإنسان نفسه فيقول إن الدنيا كلها ربيع وإن الجو بديع، وإن الألوان في هذه الحياة كلها ليست سوى تدرجات عن اللون الوردي، هذا ضرب من ضروب الحماقة، بل رمي بالنفس إلى التهلكة!

الإيجابية الحقة تعني أن يكون الإنسان مدركا تمام الإدراك ما يجري حوله، وأن يعرف شكل المشاكل والمعوقات وحجمها ومصادرها، وأن يعي أن في هذا الواقع الكثير من المصائب والابتلاءات، وأن كثيرا من الناس سيواجهون الكثير من التحديات والصعوبات في حياتهم، وأنهم سيخفقون ويصابون ويتألمون، وأن هذا كله من سنن الله الماضية التي ستستمر حتى قيام الساعة.

الإيجابية الحقة تعني أن يدرك الإنسان هذا كله مؤمنا ألا مفر من وقوعه، ولكن أن يُقبِل في ذات الوقت على مواجهته متسلحا بالعزيمة المرتفعة والهمة العالية، وقبل ذلك بالإيمان بأن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.

الإيجابية الحقة تعني أن يثق الإنسان أن الأمور، مهما كان شكلها اليوم ومهما بلغت درجة تعقيدها وإيلامها، صائرة إلى الأحسن بإذن الله تعالى، إن عاجلا أو آجلا، وأن يتذكر كم من المصائب والجراحات والمشاكل قد مرت على البشر منذ فجر التاريخ، وكيف أنها سرعان ما راحت وانقضت، طال عمرها أو قصر، وأن يتذكر أيضا كم من ابتلاء رآه الإنسان شرا في حينه، وإذا به بعدما تجاوزه يكون فيه خيرا كثيرا.

الإيجابية الحقة تعني أن على الإنسان عند مواجهته للمعوقات والفشل أن يفكر بالدروس الخفية والحلول المحتملة والثمرات المستخلصة منها، فيأخذها ويجعلها بذورا لمحاولات الغد السائرة به نحو النجاح، لا أن يجلس طوال الوقت يجتر مفردات المشكلة وتعقيداتها وألمها، ويرفض حتى مجرد التفكير أن هنالك حلا ما في مكان ما، كمن يقوم بلف حبل حول عنقه ليخنق نفسه، وليس في هذا القول أي دعوة بأنه لا يصح للإنسان أن يحزن مطلقا أو أن يتألم فيمارس طبيعته البشرية لبعض الوقت، بل على العكس تماما، هذا الشيء من تمام الصحة النفسية، بل إن من مكملات الإيجابية أن يعي الإنسان حاجته النفسية لممارسة ضعفه البشري وانكساره النفسي في أوقات معينة تكون له كاستراحة المحارب، يعود بها أقوى شكيمة وأصلب عودا.

كما أن الإيجابية ليست شيئا محصورا بأناس بعينهم دون سواهم، بل هي طبيعة وعادة يمكن التطبع بها والتعود عليها، وكما قال النبي الهادي البشير عليه الصلاة والسلام: "العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم"، ولهذا فعلى الإنسان أن يذكر نفسه بأهمية أن يكون إيجابيا كي لا يقع فريسة للإحباط والكآبة، وعليه أن يبحث عن كل ما من شأنه أن يعزز هذه الحالة في نفسه، فيرافق الصديق الإيجابي ويرتاد المجالس الإيجابية ويتابع الأخبار الإيجابية ويقرأ الكتاب الإيجابي، وأن يبتعد في المقابل عن كل ما يرتبط بالسلبية والتشاؤم وأهلها ودروبها وأدواتها.

يا سادتي، ليس هذا كلاما إنشائيا، بل هو ما رأيناه بأعيننا، وما أثبتته تجارب الناجحين الإيجابيين عبر الأزمان والعصور في مختلف بقاع الدنيا، ولو تصفحنا سير هؤلاء  فنادرا ما سنجد منهم من واتاه النجاح من المرة الأولى، بل إن أغلبهم من أخفق وأخفق لعشرات المرات، ومن أفلس مرات ومرات، ومن واجه من المصائب والمعوقات ما لا يمكن تصوره، ولكنهم جميعا ثبتوا وثابروا ولم ينكسروا في مواجهة الدنيا، حتى تيسرت له السبل وانفتحت لهم الأبواب، فإذا بهم يتسنمون ذرى المجد!