لن نصل إلى أي نتائج مرضية في حال واصلنا سلوكنا الحالي على ضفتي الأطلسي؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية، دق ناقوس الخطر مع فشل لجنة الكونغرس العليا في وضع خطة معقولة لخفض عجز الميزانية بمقدار 1.2 تريليون دولار على مدى 10 أعوام.

Ad

أما في أوروبا فجاء الإنذار مع ارتفاع تكلفة جمع التمويل اللازم لحكومتي إسبانيا وإيطاليا، وهو ما وصل إلى ذروته في نوفمبر مع فشل مزاد السندات الألماني وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مفاجئ، ويبدو جلياً أن الوقوف متفرجين أو متخبطين في أزمتنا يزيدان تعقيد الأمور، وهو ما بدا واضحاً في البورصات الأوروبية والأميركية، مع استمرار هبوط أسعار الأسهم الذي تم تسجيله في أغسطس وسبتمبر.

وأتساءل عما إذا كنا نستطيع تضييق الفجوة في الميزانية دون تحقيق بعض الإيرادات؛ فبعد أن كانت إيرادات الضرائب تمثل 18 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي على مدى 60 عاماً تقريباً، هبطت الآن لتصل هذه النسبة إلى 15 في المئة فقط، ويعتبر التراجع في الإيرادات سبباً في زيادة عجز الميزانية بنسبة 40 في المئة منذ عام 2007.

وبينما يعزى جزء من هذا الهبوط إلى الركود وبطء التعافي، فإن خفض الضرائب يمثل أحد أهم أسباب المشكلة. وتجدر الإشارة إلى أن التفضيلات الضريبية التي تم تطبيقها في عهد إدارة بوش السابقة سينتهي مفعولها عام 2012؛ وفي حال لم يتم تمديدها، فإن غيابها سيؤثر بشكل كبير على النمو الاقتصادي رغم إمكانية تحقيق مزيد من الإيرادات المهمة.

ويقول حزبا انتخابات الولايات المتحدة إن الشعب الأميركي سيقرر الوجهة التي يجب أن تمضي فيها بلاده خلال الانتخابات الرئاسية في نوفمبر؛ ولكن سيبقى موضوع الميزانية أحد أهم مواضيع الحملات الانتخابية، وسيأخذ الحيّز الأكبر في جلسات الكونغرس على مدى العام القادم.

وسيتحتم على الكونغرس الأميركي إقرار تشريع يتضمن خفض برامج الاستحقاق، وزيادة الإيرادات، فضلاً عن وضع إجراءات من شأنها خفض مستويات البطالة، ولا شك في أن برنامجاً من هذا النوع سيقتضي تقديم تنازلات من كلا الطرفين، ولكن هذا الأمر يبدو مستبعداً في الوقت الراهن بالنظر إلى تشدد مواقفهما، ولكنه ليس مستحيلاً بطبيعة الحال.

وعلى سبيل المثال، في حال وافق الحزب الديمقراطي على تمديد بعض تخفيضات الضرائب التي أقرها الرئيس جورج بوش، فإن ذلك قد يقنع الجمهوريين بالموافقة على رفع الإيرادات ضمن مجالات أخرى من النظام الضريبي.

وتعتبر أسس أرباح الأسهم والاقتصاد في الولايات المتحدة إيجابية على الرغم مما يحدث في واشنطن، ولكن المستثمرين الأميركيين يشعرون بمزيد من القلق في ما يواصلون متابعة التطورات في أوروبا التي إن دخلت في حالة ركود، فسيكون لذلك أثر سلبي على الاقتصاد الأميركي؛ حيث يواجه صانعو السياسات الأوروبيون معضلة صعبة مع مشاكل الديون السيادية كما هو حالنا مع عجز الميزانية في الولايات المتحدة.

وتعتقد البلدان الأوروبية العاجزة عن تسديد التزاماتها، مثل اليونان والبرتغال وإيطاليا، أنه يجب على البنك المركزي الأوروبي طبع مزيد من الأوراق المالية لشراء سنداتها وتمويل عجزها، ومساعدة حكوماتها على مواصلة عملها بالشكل المعتاد مع خفض أسعار الفائدة.

وقد عكف البنك المركزي الأوروبي وداعمه الرئيسي (ألمانيا) على شراء الديون في الأسواق المفتوحة، في محاولة لمنع الأزمة من الوصول إلى النقطة التي وصلت إليها، ولكن يبدو أن دول الأزمة غير قادرة أو راغبة في تطبيق الإصلاحات المطلوبة للعودة إلى المسار الصحيح.

وفي الواقع، لطالما سجلت اليونان أسعار فائدة مزدوجة الخانة في ديونها السيادية، لكن تأثير ذلك كان محدوداً ولا يهدد القارة الأوروبية كلها؛ غير أن ناقوس الخطر دق عندما ارتفعت أسعار الفائدة في إيطاليا وإسبانيا اللذين وصلت أرباح سنداتهما السيادية لأجل 10 سنوات إلى نسبة تقارب 7 في المئة أو تزيد عليها، وهو ما لا يمكن سداده على المدى الطويل، وهنا بالذات تكمن الأزمة. وحتى ألمانيا- التي تصل أرباح سنداتها إلى 2 في المئة تقريباً- عانت في بيع الديون التي أرادت إدخالها إلى السوق أواخر نوفمبر، وأخذت بياناتها الاقتصادية بالتراجع.

ولا يعتزم البنك المركزي الأوروبي أو ألمانيا مواصلة تقديم التمويل لدول لا تبذل جهداً كافياً لتحسين أوضاعها المالية. ففي إيطاليا، وصل إجمالي الدين إلى 120 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، وهي تتبوأ المرتبة الثالثة عالمياً من حيث حجم ديونها بعد الولايات المتحدة واليابان.

ويتمتع السياسيون في إيطاليا برواتب عالية، ودفعات سنوية سخية بعد قضاء عدد معين من الأعوام في البرلمان، ويبلغ عدد السيارات الحكومية في إيطاليا 600 ألف سيارة مقارنة بـ75 ألفا في الولايات المتحدة، ويجب على الدولة الإيطالية أن تقوم بإصلاح نظام المعاشات، وإزالة العوائق التي تعرقل الوصول إلى مختلف المجالات المهنية والتجارية، والحد من التهرب الضريبي.

ولن تحصل إيطاليا على أي دعم مهم قبل أن يثبت رئيس وزرائها الجديد ماريو مونتي قدرته على إجراء الإصلاحات، وسيكون عليه خوض معركة قاسية مع العديد من أنصار بيرلسكوني الذين مازالوا في البرلمان. وبطبيعة الحال، أعتقد أن الاتحاد الأوروبي، وآلية الاستقرار المالي الأوروبية، وصندوق النقد الدولي، والبنوك المركزية في الدول الصناعية هي أطراف قادرة مع بعضها على مساعدة الدول الضعيفة في إصلاحاتها بشكل كبير، ولكن هذه المساعدة لن تأتي قبل أن تبدأ الدول المنكوبة إجراء تحسينات ملموسة من المتوقع لها أن تثير معارضة الشعب على الخطوات التقشفية التي سيتم فرضها. ويتمثل الحل طويل المدى بالنسبة لأوروبا في إيجاد كيان مالي موحد، غير أن ذلك يصطدم بعدم استعداد أي من بلدانها للتخلي عن سيادته لتحقيق هذا الهدف. وبطبيعة الحال، يتم تداول هذا الموضوع على طاولات الحوار، وربما سيؤدي الوضع الطارئ حالياً إلى تعزيز تماسك أوروبا ككيان سياسي ومالي في آن معاً.

فقد شهدت بعض البلدان الأوروبية تغييرات ضرورية في قياداتها، وبدأت لتوها التنازل عن جزء من سيادتها مرغمة بفعل الضائقة المالية التي تعانيها، مقابل حصولها على التمويل اللازم لمواصلة أعمالها. وتعمل ألمانيا وفرنسا في الوقت الراهن على وضع خطة لتقوية الاتحاد المالي، وهما مختلفتان فقط على كيفية تطبيق العقوبات على البلدان التي لا تلتزم بالإطار الموحد.

وفي الحقيقة، لا ترغب أوروبا في الابتعاد عن اليورو أبداً، فقط استثمرت القارة الكثير في هذه العملة، وحققت كماً هائلاً من الفوائد من خلال التجارة بين بلدانها، لذلك لابد لها من إيجاد حل رغم التحديات التي يواجهها صانعو السياسات في الوقت الحاضر.

وتتوق الأسواق المالية الآن إلى الوضوح نظراً إلى مشكلتها المتمثلة في الإقبال الكبير على البيع من جهة، والخيارات غير الرشيدة للمشترين من جهة أخرى، مما يؤدي إلى انحدارها إلى مستويات أدنى. وتشير التقييمات التاريخية إلى أن الولايات المتحدة وغيرها من الأسواق تنطوي على العديد من الفرص الجيّدة، لاسيما في الشركات عالية المستوى التي تمتاز بارتفاع حصص أرباحها. ولكي يزاول المستثمرون عملهم بقناعة تامة، يجب على صانعي السياسات على ضفتي الأطلسي حلولاً قابلة للتطبيق خلال عام 2012 حتماً.

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون