ميلاد الشمعة
كان الرجل يرقب انتهاكات حرية الرأي بقلق بالغ. وحين قرأ في أحد أيام شهر أبريل من عام 1961 أن عدداً من الطلاب في البرتغال قد تم اعتقالهم وسجنهم بسبب قيامهم بالاحتجاج السلمي على النظام القمعي الحاكم حينذاك، فكر بأن يفعل شيئاً. قرر أن يتوجه إلى مقر السفارة المعنية في لندن ليعبر للسفير عن احتجاجه، ولكنه وهو في الطريق فكر بأن يكتب مقالاً في جريدة الآوبزرفر حيث يكتب، ويسلط الضوء على معاناة المساجين الذين يعبرون عن رأيهم بطريقة سلمية، وهكذا كان، نشر الصحافي والمحامي البريطاني بيتر بينسون مقاله الأشهر «السجناء المنسيون» طالب فيه العالم بالتركيز على هذه الظاهرة مقترحاً أسلوباً بسيطاً، وهو قيام مَن يهتم بذلك الأمر بإرسال رسالة إلى الحكومة المتسلطة مطالباً إياها بالإفراج عن السجناء أو تقديمهم إلى المحاكمة العادلة.
لم يكن بينسون حتى في أحلى أحلامه يتخيل أن تلك الفكرة البسيطة العادية، التي اتهمها بعض معاصريه بالجنون والخيال المفرط، أن تتحول إلى أهم منظمة دولية مدافعة عن حقوق الإنسان ألا وهي منظمة العفو الدولية، والتي بلغت الخمسين من العمر الأسبوع الماضي.ظهرت المنظمة أو الأمنستي في عمق أتون الحرب الباردة وهو أسوأ توقيت لحقوق الإنسان، فقد كان القطبان السوفياتي والأميركي ينتهكان حقوق الإنسان ويشجعان الدول الواقعة في فلكهما على استخدام القمع في كل الزوايا، ويتهمان الأمنستي وغيرها من المنظمات الدولية بالتحيز والانتقائية. اليوم يزيد عدد أعضاء منظمة العفو الدولية على مليوني عضو في 150 بلداً، وحصلت المنظمة على جائزة نوبل للسلام سنة 1977، وجائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان سنة 1978، وأصدرت أكثر من 20 ألف تقرير حول انتهاكات حقوق الإنسان لم تستثنِ فيها بلداً واحداً من بلدان العالم من إسرائيل إلى الولايات المتحدة إلى الصين إلى العراق خلال حكم صدام أو تحت الاحتلال، وأرسلت قرابة الأربعة آلاف بعثة مراقبة وتقصي حقائق كان لي شرف المشاركة أو رئاسة بعضها. ومازالت حتى يومنا هذا تُوجَّه إليها الاتهامات بالتحيز، وكان آخرها اتهام إسرائيل لها بالانتقائية، واتهام سورية لها بأن لها أجنداتها الخاصة، لم يتغير شيء، ولا يبدو أنه سيتغير.الأمنستي في عيدها الخمسين هي أكثر نضجاً، وأكثر رسوخاً، كانت شمعة محاطة بالأسلاك الشائكة شعاراً، والآن في عالم أكثر قبولاً بمبادئ الإنسانية، ساهمت كمنظمة ومن ورائها رجال ونساء من كل بقاع العالم، ناضلوا بصدق، وضحوا بحياتهم، ودافعوا دون وجل عن بشر آخرين لا يعرفونهم ولم يلتقوا بهم، يجمعهم فقط شعار واحد حرية الإنسان وكرامته هي أساس استقرار المجتمعات وازدهارها.بالطبع مازال الطريق موحشاً وطويلاً، ولكن وجود منظمات كـ»العفو الدولية» سيظل يمثل ملجأ لكل المهمشين والمستضعفين، ومحطة كشف وفضح لانتهاكات الطغاة والمتسلطين أياً كانوا، شرقاً أم غرباً، ومن أي ملة جاءوا.