قبل الانتخابات وتحديداً في بداية ديسمبر المنقضي تناولنا في هذه الزاوية قضية الحريات العامة والشخصية باعتبارها التحدي الأكبر الذي يواجه الجماعات الإسلامية التي حققت فوزاً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية في المغرب وتونس ومصر وليبيا لأسباب ذكرنا بعضها في ذات المقال الذي جاء فيه: "... أما الآن وبعد نجاح القوى والجماعات الإسلامية خصوصا "الإخوان المسلمين" و"السلفيين" في كل من مصر وتونس والمغرب وليبيا فإن التحدي الأكبر الذي سيواجههم هو كيفية تعاملهم مع قضايا الديمقراطية الاجتماعية، وبالذات الحريات العامة والشخصية التي عانوا هم أنفسهم كتيارات سياسية غيابها خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، إذ إن الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات العامة فقط. أما القضايا المتعلقة بالأمور الاقتصادية ومعالجة مشاكل التنمية والبطالة ورفع مستوى المعيشة، فلا أظن أن القوى والجماعات الإسلامية تحمل رؤية أو فكراً مختلفاً عن الفكر الاقتصادي الرأسمالي بشكله العام؛ رغم بعض المسميات والأشكال الجديدة التي لا تمسّ الجوهر أو المضمون".

Ad

ولعل المتابع لما يجري الآن في مصر وليبيا وتونس يدرك أن قضية الحريات لا تشكل أولوية بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية بل إن بعض القوى الإسلامية المتطرفة تصرح جهاراً نهاراً بمعاداتها لقضايا الحريات العامة والشخصية، وهو الأمر الذي يهدد عملية بناء أنظمة مدنية ديمقراطية تحل محل الأنظمة الاستبدادية السابقة، لكننا نجزم أن الشعوب العربية التي عانت الأمرين في العقود القليلة الماضية، وثارت ضد الظلم وكبت الحريات وانتهاك الكرامات لن تقبل بذلك مهما كلفها الأمر.

ماذا عن وضعنا المحلي؟

لقد أشرنا باستغراب في المقال ذاته إلى ما جاء في البيان الصحافي للقوى والجماعات الإسلامية المحلية (حدس، والحركة السلفية، وتجمع ثوابت الأمة، والنائب خالد السلطان) الذي صدر بتاريخ 26 نوفمبر 2011 وبالتزامن مع الحراك الشعبي الذي شاركت فيه كل العناصر والقوى السياسية والشبابية، حيث إنه لم يرد في هذا البيان الصحافي أي ذكر للدستور أو الديمقراطية أو الحريات العامة اللهم وصف الديمقراطية الغربية بأنها "ديمقراطية مزعومة"!

كان ذلك قبل الانتخابات الأخيرة التي أتت نتائجها بشكل عام لمصلحة القوى والجماعات الإسلامية التي يبدو أن بعض أطرافها سيبدأ بتنفيذ ما جاء في بيان "26 نوفمبر"، الذي ستكون أولى ضحاياه الحريات العامة والشخصية، وهو الأمر الذي كان واضحاً في تصريحات عدد من النواب الإسلاميين، ومنها التصريح الصحافي الأخير لعضو كتلة "العدالة" النائب بدر الداهوم الذي ذكر فيه: "أن "كتلة العدالة" تقدمت بقانون "الحشمة" الذي يمنع ارتداء الملابس المخلة بالآداب في الأماكن العامة"! مع أن مصطلح "الحشمة" فضفاض وغير محدد، ومن الممكن أن يستخدم بشكل تعسفي للتضييق على الحريات الشخصية وفرض الوصاية على شكل الملابس التي يرتديها الإنسان ونوعها، فما المقصود بالحشمة؟ وكيف يمكن قياسها؟ ومن الجهة التي تحددها وبناء على أي معايير؟ وهل تختلف باختلاف نظرة الناس وظرفي الزمان والمكان أم أنها ثابتة لا تتغير؟!

أخيراً، فإن السؤال لا يزال قائما وهو: هل، يا ترى، تدرك القوى والجماعات الإسلامية أن الديمقراطية التي تنشدها الشعوب الحية ومنها شعبنا ليست مجرد إجراءات شكلية وصناديق اقتراع، بل إنها تعني فيما تعنيه التعددية والتداول السلمي للسلطة، واحترام الحريات العامة والشخصية، وحماية حق الاختلاف في كل شيء بدءاً من حرية الرأي والتعبير إلى شكل الملبس مروراً بطريقة التفكير، أم أنها، أي الجماعات الإسلامية، ستحاول استغلال الإجراءات والأجواء التي توفرها الديمقراطية النسبية من أجل فرض وصايتها على المجتمع، ونسف القيم الديمقرطية مع أن ذلك ضد الوعي المتنامي للشعوب الحية وضد منطق العصر؟ هذا ما ستجيب عنه الأشهر القليلة القادمة.