فينومينولوجيا الثورة العربية

نشر في 07-03-2012
آخر تحديث 07-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي لنشرح أولاً معنى «فينومينولوجيا».

فينومينو Phenomeno معناها الظواهر.

لوجيا Logy معناها علم. وبذا يكون معنى هذا المصطلح الفلسفي الذي استعمله هيغل لأول مرة، في كتابه الأشهر (فينومينولوجيا الروح) علم الظواهر. وفينومينولوجيا الثورة العربية هنا، معناها علم ظواهر الثورة العربية، وهذا العلم لا يتحقق إلا بعد دراسة تامة لكل الظواهر المحيطة من سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وتاريخية... إلخ.

وبحسب المصطلح الهيغلي، فإن هذا العلم يدرس تجليات الروح عبر التاريخ، ومن خلال المراحل المتعاقبة منذ أقدم العصور حتى اليوم. والروح تعني هنا– وحسب المصطلح الهيغلي– الوعي البشري، أو العقل البشري، أو حتى الفكر البشري، حسب هاشم صالح في كتابه "معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا" (ص 282).

الحدث العظيم في التاريخ الحديث

ونحن هنا، لن نستطيع أن نفعل ما فعله هيغل العظيم، فذلك جهد لا نقدر عليه الآن، وفي هذه الظروف الشخصية والعامة، ولكننا سنحاول- بقدر الإمكان- أن نفسر ظاهرة الثورة العربية تفسيراً من عدة جوانب. وأن نشير إلى أن ظهور الثورة العربية في التاريخ العربي الحديث على هذا النحو الذي نراه الآن، يُعدُّ حدثاً عظيماً، لا يقل في عظمته، وفي تأثيره عن عظمة وتأثير الثورة الفرنسية في 1789 بالنسبة إلى فرنسا، وبالنسبة إلى أوروبا، وأميركا، والعالم كله.

فالثورة العربية، أطاحت بعروش وسلطات سياسية ما كان لها أن تسقط منذ عشرات السنين، ولم تكن بأضعف مما بقي من سلطات سياسية حتى الآن، ولكن لغز الثورات الذي يشبه طبيعة البراكين، يظل غامضاً بعض الشيء، رغم تقدم كثير من العلوم في عصرنا، في تفسير كثير من الظواهر.

كيف نفهم الثورة العربية؟

ومن الواضح أن الثورة العربية التي انفجرت في أكثر البلدان العربية أهمية، وأكبرها حجماً، وأعسرها على إسقاط الأنظمة، وأكثرها أخذاً بالحياة المعاصرة وبالليبرالية والحداثة، وأعنفها في استعمال القوة البوليسية ضد المعارضة، لم يتم فهمها الفهم التاريخي الصحيح، من حيث اعتبارها خطأً– كما قال الشاعر السوري أدونيس– فاشية إسلامية، والنظر إلى المعارضين في شارع الثورات العربية على أنهم من الأصوليين الإسلاميين المتشددين. صحيح أن "جماعة الإخوان المسلمين" في معظم بلدان الثورات العربية، ساهمت مساهمة فعالة في نشوب وتنظيم صفوف هذه الثورات. ولكن علينا أن نكون عقلاء بما فيه الكفاية، وأن ننظر الى هذه "الجماعة" ليست كما كان عليه تفكيرها وتنظيمها في الخمسينيات من القرن العشرين، أو قبل ذلك، أو بعده، فهذه "الجماعة" لا تحكم التاريخ ولكن التاريخ هو الذي يحكمها. بمعنى أن الثورات العربية التي انفجرت في نهاية 2010 وبداية 2011، كانت قد انفجرت في زمن الثورة العالمية الثالثة، وهي ثورة المعلومات والاتصالات، أي في زمن السرعة القصوى للإنسانية.

وإذا كانت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر قد زادت من التسارع الحداثي في فرنسا، وفي أوروبا عامة، وأن الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر زادت أكثر فأكثر من التسارع الحداثي الغربي، حيث نقلت أوروبا من العصر الزراعي التواكلي الجمعي إلى العصر الصناعي الفردي، فإن الثورات العربية في نهاية 2010 وبداية 2011 سوف تنقل العالم العربي من مجرد الشعارات الدينية الأصولية والسلفية المحفوظة في الكتب القديمة، والتي يرددها رجال الدين على منابر صلاة الجمعة، وفي الأعياد الدينية، ويتم تسجيلها على أشرطة مختلفة، وتوزيعها على جمهور عريض من الناس الفقراء والمتدينين تديناً شعبياً، إلى التطبيق الفعلي الكلي أو الجزئي على الأرض، في أجواء محلية وإقليمية ودولية. ولنعلم، أنها مصادفة تاريخية بالغة الأهمية، أن يصل الأصوليون والسلفيون الدينيون إلى السلطة في نهاية 2010 وبداية 2011، وهي فترة تاريخية، من الصعب على كثير من الشعارات الدينية أن تُطبَّق على أرض الواقع، ولو وصل هؤلاء إلى السلطة قبل نصف قرن من الزمان، لكان حظ شعاراتهم أوفر في التطبيق من الآن، حيث كان العالم العربي في ذلك الوقت قد خرج من توّه من ربقة الاستعمار، وكان تقبُّله للشعارات الدينية العاطفية الخالية من أي واقعية، أوفر حظاً من الآن.

تحديات فينومينولوجيا الثورة العربية

إن أمام فينومينولوجيا الثورة العربية تحديات كثيرة لا بُدَّ أن تواجهها، وتتغلب عليها، وهي طريق المستقبل، بينما لو علمنا أن طريق المستقبل هو الطريق الوحيد أمام فينومينولوجيا الثورة العربية. ففي حين أن طريق التيار الديني هي طريق الماضي، فإن طريق الثورة العربية هي طريق المستقبل، ولعل أهم التحديات التي تواجه فينومينولوجيا الثورة العربية هي:

1- عدم التفرقة الواضحة بين الليبرالية والرأسمالية والإمبريالية، كما يشير الباحث الفلسطيني حازم القواسمي ("الليبرالية في العالم العربي: رؤى وتصورات لسياسيين عرب"، ص 19). وذلك نتيجة لغياب الوعي العربي. "وكان للتعامل مع الليبرالية كمفهوم غربي صرف ضمن المفاهيم الغربية الاقتصادية والسياسية بشكل عام، سبباً رئيسياً لابتعاد الشعوب العربية عن الليبرالية، ونفورها منها، ومحاربتها، تحت ذريعة محاربة الأفكار الغربية الدخيلة.

2- اعتبار أن الليبرالية مفهوم جديد في العالم العربي، ولكن الليبرالية، كما يقول الباحث المصري أسامة الغزالي حرب ("الليبرالية في العالم العربي: رؤى وتصورات لسياسيين عرب"، ص 44) تعود إلى ما يقرب من مئتي عام، مع بداية النهضة الحديثة في المنطقة. وعلى فينومينولوجيا الثورة العربية أن تصحح هذا المفهوم، وتصحح مفهوم أن الليبرالية ليست بضاعة مستوردة تجب محاربتها، كما ينادي التيار الديني بذلك.

3- على فينومينولوجيا الثورة العربية أن تؤكد أن مفهوم الليبرالية العربية يختلف عنه في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وآسيا، وأي ليبرالية أخرى في العالم، فالليبرالية الأوروبية ارتبطت بحركة التنوير وبأفكار الفلاسفة الذين ظهروا في القرن السابع والثامن عشر، وبالتركيز على نقد المفاهيم المسيحية. في حين أن مفهوم الليبرالية العربية تبلور بالدرجة الأولى- كما يقول أسامة غزالي حرب- من خلال مبادئ إسلامية، وقومية عربية، وارتباطه الوثيق بالديمقراطية، وحرية الفرد، وضرورة رقابة السلطة التشريعية على أعمال السلطة التنفيذية، واستقلال السلطة القضائية استقلالاً تاماً، وضمان حرية التعبير والتفكير، وتداول السلطة... إلخ.

4- وكما أن الليبرالية العربية تختلف عن الأوروبية، والأميركية، والآسيوية، فإن مفهوم الليبرالية العربية يختلف من منطقة إلى أخرى في العالم العربي، وخاصة اختلاف مفهوم الليبرالية المصرية والليبرالية الخليجية مثلاً. فالأولى بدأت مبكرة، في حين أن الثانية لم تبدأ إلا أخيراً. وأن الأولى لا تحكمها ضوابط اجتماعية كما تحكم الثانية، وأن الأولى عرفت الحياة الحزبية والممارسات الدستورية، في حين أن الثانية لم تعرف ذلك إلا في بعض البلدان، وبعد الستينيات من القرن الماضي (الكويت مثالاً)، وهكذا. وعلى فينومينولوجيا الثورة العربية، أن تتدبر مثل هذه الاعتبارات في الحاضر والمستقبل.

* كاتب أردني

back to top