ليبيا... نحو الغد المنشود!
ستذهب كل هذه التضحيات هدراً إن لم يكن بديل القذافي, "الثائر ابن الخيمة المجاهد المناضل"! نظاماً تعددياً ديمقراطياً ولم يكن البديل لـ"الجماهيرية الليبية الشعبية الديمقراطية العظمى" دولة مدنية مستقرة، السلطة فيها للشعب فعلاً، وهي جزءٌ من العالم المتقدم والمتحضر، فالشعب الليبي اضطُهد أكثر من أربعين عاماً، وخيرات بلاده لا يعرف أحد إلى أين ذهبت، وما عُرف منها أُنفق على المشاريع غير المجدية التي لا ضرورة لها وفي مقدمتها مشروع النهر العظيم الذي بقي "الأخ قائد الثورة" يتغنى به حتى آخر لحظة.لقد بقي الشعب الليبي مبعداً عن شؤونه وشجونه الوطنية الحقيقية والفعلية، وبقي غير مسموح له برفع رأسه والسؤال حتى مجرد السؤال عن ألاعيب القذافي المتلاحقة التي استنزفت خيرات بلد كله خيرات على نزوات وأوهام رجل مصاب بعقدة العظمة بدءاً بتصديق أنه "أمين الأمة العربية"، ثم انتقل إلى حكاية :"ملك ملوك إفريقيا" والفضاء الإفريقي، وكان بين هذا وذاك قد أدخل ليبيا والدول العربية في دوامة سلسلة من المحاولات والتجارب "الوحدوية" الفاشلة التي حولت فكرة "الوحدة" إلى مسخرة للعالم بأسره.
إنه في البداية وقبل كل شيء يجب انتزاع فكرة الزعيم الأوحد والقائد الملهم مبعوث العناية الإلهية من أذهان الشبان الليبيين الذين هم مستقبل ليبيا الواعد، فتجربة "الأخ قائد الثورة" كانت مكلفة كثيراً، ولهذا يجب عدم تكرار هذه التجربة إطلاقاً، فالبديل هو الديمقراطية، وهو تداول السلطة، وهو صناديق الاقتراع، وهو أن تكون الثروة الليبية والثورة الليبية أيضاً للشعب الليبي وفي خدمة رخائه والتعويض عليه بعد أربعين سنة من الحرمان وتكميم الأفواه والوحشة والاقتلاع والتشريد والقمع الهمجي الذي لا مثيل له حتى في زمن موسيليني والاستعمار الإيطالي البغيض. كانت ليبيا خلال الأربعين سنة الماضية مجرد شكل "كاريكاتوري" لدولة، وكان الكتاب الأخضر مجرد تقليد طفولي مشوه للكتاب الأحمر الذي اخترع حكايته البائسة لين بياو لإرضاء الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وكانت النظرية الثالثة مجرد هذيان لرجل أميٍّ سعى لتكبير نفسه أكثر من اللزوم بالادعاء باختراع طريق آخر بين الاشتراكية والرأسمالية، أما حكاية راية الفاطميين الخضراء فإنها ضربٌ من الجنون ومثلها مثل وضع خريطة إفريقيا بحجم كبير على صدره.لقد شغل القذافي الليبيين أربعين سنة بملابسه الغريبة والمضحكة، ولقد استنزف ثروات بلادهم على عقد مؤتمرات تمجيد الكتاب الأخضر الذي تُرجم إلى كل لغات العالم، ولم يقرأه فضولي إلاّ وضحك حتى تمزقت خاصرتاه، ولقد دخل صاحب الجماهيرية العظمى ظاهرة الإرهاب من أبوابها العريضة، وأنفق بسخاء من مال الشعب الليبي على كل شذاذ الآفاق من الألوية الحمراء الايطالية إلى بادرو ماينهوف الألمانية إلى الجيش الأحمر الياباني إلى الجيش السري الأيرلندي إلى "التوباماروس" إلى "النجم الصادع" وبالطبع إلى أبو نضال وتنظيمه و"أبو الجماجم" و"تمساح الشريعة" وكل الفصائل التي ادعت زوراً وبهتاناً أنها فلسطينية، وهي في الحقيقة كانت ولايزال بعضها مجرد مجموعات من القتلة ومجرد بنـادق للإيجار.إن الانتصار على أربعين سنة من القمع والوحشة والاستبداد عمل جبار وعظيم وفي غاية الأهمية، لكن هذا لا يكفي، فالأهم ألا يكون هناك استبدال للقذافي القديم بقذافي جديد، وهو ألا يقفز تنظيم متطرف ومتزمت على رأسه رجل أرعن محشو رأسه بكل تشوهات الحاضر والماضي إلى كرسي الحكم ليمارس استبداداً دينياً أكثر قسوة بألف مرة من استبداد صاحب الكتاب الأخضر. إن ليبيا بحاجة أولاً إلى التقاط الأنفاس، وهي بحاجة إلى مرحلة انتقالية سريعة, يجب ألا تطول ويجب ألا تُستنزف بالصراعات الجانبية وبالتصفيات الشخصية والحزبية, تذهب بعدها إلى صياغة نفسها وفقاً لمواصفات القرن الحادي والعشرين، لتكون دولة ديمقراطية يحتكم شعبها إلى صناديق الاقتراع ولتكون السلطة فيـها لهذا الشعب، ولتنفق خيراتها ومواردها من أجل البنـاء والرخـاء والتقـدم والحداثة.