في الأفلام العربية القديمة يتكرر دائماً مشهد غير منطقي، إذ يدخل البطل إلى قهوة لا يعرف فيها سوى شخص واحد يتوجه إليه ليدور بينهما حوار قصير ثم تشابك بالأيدي تتبعه معركة كبيرة بين كل زبائن القهوة، كل واحد منهم يرفع الكرسي ليضرب من كان يلعب معه طاولة الزهر قبل قليل، طبعاً من المفهوم أن هناك سبباً للعراك بين البطل وخصمه، لكن ما سبب الهيجان والغضب العارم الذي اجتاح بقية الزبائن؟! لا أحد يعلم، لا المشاهد ولا الممثلون ولا حتى المخرج، لكن هذا ما جرت عليه العادة وما اعتاد الجميع القيام به! وكنت أشاهد وأقرأ وأسمع التناحر الطائفي الذي اجتاح الكويت في الأيام الماضية لأن متطرفاً من الطائفة السنّية كتب مقالاً "استظرف دمه" فيه قليلاً، وهو يسخر من معتقدات الشيعة ليرد عليه متطرف آخر من الطائفة الشيعية بتصريح "أكثر ظرافة" يهدر فيه دم الكاتب، وبدلاً من تسفيه "الظريفين" أو تركهما يتناحران وحدهما، راح الجميع من أتباع الطائفتين السنّية والشيعية- كما في الأفلام العربية القديمة- يحمل الكراسي والطاولات وأكواب الشاي ليرميها على الآخر في معركة دامية لم يمت فيها أحد، لكنها حققت رقماً قياسياً جديداً في كم الشتائم والتخوين والخوض في الذمم والأعراض، معركة بلا منطق ولا عقل، وبلا داع أيضاً... تماما كأصحابها! و"تعال فهِّمْ وعلِّمْ ناس" تفرغوا لوسائل التواصل الاجتماعي، وأساؤوا استخدامها ليحولوها إلى وسائل تفكك وتشتيت اجتماعي مع أن المسألة برمتها لا تستحق هذا الغضب الجماعي العارم وهذا التشكيك بالولاءات، وأن المجتمعات مهما تحضرت وتقدمت سيبقى هناك دوما فرد متخلف لا يرى في الآخر إلا السواد القاتم والشر القادم، وأن الحل يكمن في التوجه إلى القضاء ليقول كلمته ضد من يتعرض لعقائد وأديان وأعراق الآخرين، والعملية برمتها لا تستحق أكثر من رفع قضية على المخطئ دون تعميم التهمة على كل من هم على ملّته واتهامهم بأنهم على شاكلته، ليردوا بالمثل مستحضرين حادثة فردية أخرى ليعمموها على الطائفة بأكملها. إنه التعميم، شعار الجاهلين وملاذ الغاضبين، فيه يفرغون عقدهم وشرورهم المكبوتة نحو الآخر... وكل ما يتصل به! والمضحك المبكي أن كل طرف لا يزال يعيّر الآخر في معتقداته ويسخر مما يراه أباطيل لا يصدقها العقل، وهو لا يعلم أن العقائد الدينية عند كل طرف هي حقائق غير قابلة للجدل، وما عداها أباطيل وخرافات، فما تراه مقبولاً منطقياً وعقلياً في عقيدتك يراه الآخر أبعد ما يكون عن العقل والمنطق، وما تعتبره "معجزة" في مذهبك يراه الآخر خرافة مضحكة. والحل لن يكون أبداً بالمناظرات والجدل القائم على قوة الحجة والبرهان، فالعملية عاطفية وراثية صرفة، والمعتقد والمذهب الديني يرثه الإنسان من والديه وبيئته ولا مجال لتغييره إلا في أقل القليل من الحالات، وبتوافر ظروف استثنائية نادرة جداً، وقد فهمت الأمم المتحضرة و"السنعة" أن الاختلاف والتنوع الديني أمر طبيعي على الإنسان أن يتقبله ويتعايش مع المختلف عنه من أجل مصلحة الاثنين دنيوياً وأخروياً، لكن هذا التسامح لا يزال بعيداً جداً عن المجتمعات المتخلفة، والتي يتناحر فيها الأحياء ويتقاتلون من أجل الدفاع عن الأموات!

Ad

ومشكلة المشاكل في الكويت هي الفراغ، فلا الطالب يدرس كما ينبغي، ولا الموظف يعمل كما يجب، ولا المسؤول يقوم بمسؤولياته كما يفترض، والوقت طويل والناس "فاضية"، و"الفاضي كما تعلمون يعمل قاضي"، وقد تحول الجميع في الآونة الأخيرة إلى قضاة ومحامين وجلادين في الوقت ذاته، وأصبح لدينا فائض كبير من السياسيين المحنكين الذين لا همّ لهم سوى حل مشاكل البلد عبر "تويتر" و"الفيس بوك"، و"خذ تنظير واستلم تصنيفات لها أول وليس لها آخر"، هذا "رمز سياسي" وذاك "خبل سياسي"، هذا "وطني شريف" وذاك "انبطاحي لعين"، هذا "ناصبي" وذاك "رافضي"، ولم يسلم أحد، لا الطيبون ولا الأشرار، وكل "حبّة أصبحت قبة"، وكل كلمة طائشة صارت قضية، قاتل الله الفراغ والفارغين!

ويا حكومة اشغلي هؤلاء الشباب وهؤلاء "الشياب" بما ينفع قبل أن يطيش العيار ويعبثوا بأعواد الثقاب ليحرقوا المنزل... بمن فيه!