مرحلة السبعينيات في العراق مرحلة منسية، ويُراد لها أن تكون منسية، لعوامل عدة. لعل أهمها المرحلة الثمانينية والتسعينية التي تلتها، والتي طمرت روح البلد وجسده وعقله بالرماد: مرحلة الاستبداد الدكتاتوري المطلق، ومرحلة حربي الخليج الطويلتين ومرحلة الحصار، ولا أريد أن أُلحق بهما المرحلة التالية التي نعيش دخانها الخانق اليوم.
في الحياة الثقافية ظلت إرادة طمس المرحلة تلك أكثر فاعلية، ولقد استعانت إرادة الطمس بواقع أن معظم مثقفي البعث فيها، والذين كانوا أسيادها دون منازع، تعرض لحريق العقدين التاليين ورماده، شأنهم شأن الجميع. خاصة بعد أن بلغ عدي وقصي مبلغ الرجال، واستبدلا الأجيال الشابة من مرتزقة الثقافة بمرتزقة مثقفي البعث السابقين، الكتب والصحافة المعارضة صارت تتحدث عن فاعلية المتأخرين دون المتقدمين، الذين لم يبق عليهم من شاهد.حين أصدرتُ كتابي «العودة إلى غاردينيا» كتب عنه صديق بعثي من جيلي معاتباُ، بأني فيه «أنبش في دفاتر عتيقة»، متناسياً أني، بعد منفى ثلاثين عاماً، لا أملك من ذاكرتي العراقية إلا هذه الدفاتر العتيقة، على أني أعرف أنه في عتابه كان يطمع في النسيان، ومن منا لا يريد أن ينسى؟ ولكن هيهات!كتبُ استعادة تلك المرحلة الثقافية نادرة، بسبب موت الأكثرية، وانهدام حيل الناجين. قبل أسابيع وصلني كتاب من هذه الكتب للدكتورة اعتقال الطائي: «ذاكرة الأشياء»، ولا أعرف لمَ قرأته «ذاكرة للنسيان»، وحفظته كذلك، وأحسب أن العنوان الذي توهمتُ كان أنسب، فذكرى الآلام لا تخلف إلا آلاماً، وما نشهده منذ سنة التغيير وزوال الدكتاتور حتى اليوم لا يجعلنا نثق بأن التجربة الدامية كفيلة بأن تُعطي أي ثمرة للحكمة.اعتقال تنتسب للمرحلة التي أنتسب إليها، وغادرتْ العراق إلى المنفى الهنغاري بعد مغادرتي بأشهر، درست النحت في أكاديمية الفنون، وشاع اسمها بين أوساطنا لعوامل، أهمها برنامجها التلفزيوني «السينما والناس»، كانت تعرض فيلماً متميزاً، بعد أن تستضيف مثقفاً للحوار بشأنه، وكنتُ أحد هؤلاء، وشعرها الأسود المنحدر باسترخاء إلى ما دون الكتفين، والذي يمنح لوجهها وقوامها الجميلين مزايا أنثوية إضافية، كان العامل الآخر الحاسم، ولا أريد أن أضيف طراز مشيتها التي كانت تتمتع بهدوء إرادي مقصود.في الكتاب تعزي النفس بين الحين والحين بهذه الفضائل، وهي كريمة معنا ومع النفس بروح الدعابة المتواصلة أيضاً، لأن الكتاب «فصول من سيرة ذاتية» معبأة بالأسى العراقي الذي يحتاج إلى تعزية، وإلى دعابة. فصول الأسى لا ترتبط بالصفحات المنسية من سبعينيات سطوة الدكتاتور، ومرتزقته من المثقفين، بل بالصفحات الطرية من سنوات المنفى التي تتزاحم فيها أخبار الموتى، وحكاية معاناتها هي في صراعها الأليم مع مرض السرطان (احتلت الصفحات المئة الأخيرة من الكتاب). ولعلها صفحات تتمتع بالصحة الروحية بصورة بدت لي فريدة. شجاعة اعتقال وروح الدعابة فيها جعلت من مواجهة الموت فرصة لامتحان الإرادة. فرصة لامتحان عظمة هذا الكائن الأعزل، العاري، المهجور في الكون المظلم. والمذهل أن هذا الاحتفاء بالإنسان ذلل من جبروت المرض العضال في النهاية.الكتاب الذي يبدأ بعبارة «الموت في الشتاء يقترن بالأشجار العارية، في هذا البلد البارد النائي عن الوطن»، ينتهي بهذه الفقرة، وقد أُبلغتْ بزوال أعراض المرض بعد سنواتٍ أربع مريعة: «رحتُ أجري لألحق بنهار الغد بعد أن اشتريت عشرين شمعة. وقفت أرقب مياه الدانوب ولن أدع الشموع تطفو على موجاته الناعمة كما وضعتها أمي على سطح ماء الفرات لتذهب إلى «الخِضْر» الذي سيستجيب إلى نداء استغاثتها ونُذرها، بل سأضعها لتضيء كعكة عيد ميلاد ابنتي فرحة، لأنني سأراها في الرابع من حزيران وهي تدخل عامها العشرين». قفزة تليق بامرأة شجاعة. إن المقاومة في الصفحات المئة الأخير لتبدو لي مادة رمزية تمثل روح المقاومة على الصفحات السابقة التي تغطي عقد السبعينيات العراقي، وعقود المنفى جميعاً.يتمتع نثر الكتاب بعفوية مُقربة إلى النفس، وجرأة لا فساد فيها. وزمنه يتناوب بين الحاضر والماضي بصورة تُحفّز المخيلة. إنه كتاب للتنفس برئة متعافية.
توابل
ذاكرة للنسيان
30-06-2011