لا العسكر يريدون قطع العلاقات مع واشنطن، ولا البرلمان، ولا «الإخوان»، ولا «السلفيون»، ولا «الليبراليون»، ولا حتى "الأغلبية الصامتة"؛ فلماذا إذن تم تفجير تلك الأزمة الآن؟ هناك تفسيران؛ أولهما أن تلك المنظمات ترتكب أخطاء ومخالفات قانونية ذات تأثير يمس أمن الدولة فعلاً. وثانيهما، أن «المجلس العسكري» يريد أن يثبت لواشنطن أن «حل الأزمة في يده»!
على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، لم تشهد العلاقات المصرية- الأميركية أزمة مثل تلك التي تشهدها راهناً، رغم توافر العديد من الأسباب التي كان يمكن أن تفجر مشكلات طاحنة بين البلدين المتحالفين. لم تفلح المواقف الأميركية الصادمة المتتالية في دعم العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في تعكير صفو تلك العلاقات، ولا حتى الحرب على لبنان، بل إن استخدام واشنطن للقوة العسكرية بحق دول إسلامية مثل أفغانستان، أو عربية مثل العراق والسودان وحتى ليبيا، لم يفلح أبداً في خلق مشكلات بين البلدين، بل أحياناً ما كان سبباً في تكريس التعاون بينهما. وحينما انتهكت الولايات المتحدة السيادة المصرية انتهاكاً مباشراً، واعترضت طائراتها المقاتلة طائرة ركاب مصرية، كانت تقل ناشطين فلسطينيين خطفوا الباخرة الإيطالية "أكيلي لارو"، وأجبرت تلك الطائرة على الهبوط في مطار صقلية، تم احتواء الأزمة سريعاً دون أن يسمح لها بتوتير العلاقات. اليوم تبدو الأمور مختلفة، على خلفية أزمة إحالة السلطات المصرية 44 شخصاً، من بينهم 19 أميركياً وأجانب آخرين، إلى المحكمة، في قضية "التمويل غير المشروع" لجمعيات أهلية ناشطة في مصر. تلك بالفعل أزمة فريدة من نوعها، ليس لأنها لم تحدث حين انتهكت واشنطن السيادة المصرية مباشرة، في حادث الطائرة 1985، أو حين اعتدت اعتداء صارخاً على دول عربية في المحيط الاستراتيجي لمصر، ولكن لأنها أيضاً تقع في فترة انتقالية، تدير شؤون البلاد فيها "سلطة مؤقتة"، ترتبط بأفضل العلاقات مع الولايات المتحدة، وتدرك جيداً حجم تأثيرها الاستراتيجي وأبعاده. وهي أيضاً أزمة خطيرة، لأن مسؤولين أميركيين عديدين أشاروا إلى إمكانية أن تؤثر في طبيعة العلاقات الوثيقة بين البلدين، وآخرين أكدوا بوضوح أنها يمكن أن تقود إلى قطع المعونات العسكرية والمدنية عن مصر، أو خفضها على أقل تقدير، وأخيراً فقد ذهب نواب بارزون في الكونغرس إلى أنها ربما تؤدي إلى "قطيعة كارثية" بين البلدين. تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام كلمة "قطيعة"، فضلاً عن "كارثية" لوصف المستقبل المحتمل للعلاقات المصرية- الأميركية، على مدى أكثر من ثلاثة عقود؛ وهي أيضاً المرة الأولى التي يستخدم فيها سياسي بارز مثل جون ماكين، عشية زيارته مصر على رأس وفد من الكونغرس، لغة تهديد مبطنة بحق الدولة المصرية. فقد صرح ماكين بأنه لن "يتفاوض بشأن الإفراج الفوري عن العاملين في منظمات المجتمع المدني الأميركية"، ولكنه "سيوضح للقادة العسكريين مدى خطورة هذه المسألة". ربما اهتم المراقبون كثيراً بلهجة "التهديد المبطن" في تصريحات ماكين، خصوصاً أنها اقترنت بمشروع تقدم به نواب جمهوريون لـ"قطع المعونات فوراً عن مصر"، لكن كثيرين لم ينتبهوا إلى مقولة هذا السياسي المخضرم، الذي نافس أوباما على منصب الرئاسة قبل أكثر من ثلاث سنوات، حينما قال: "أدرك أن حل أزمة المنظمات قد لا يكون في أيدي القادة العسكريين حتى إن أرادوا ذلك، لذلك سأسعى إلى عقد اجتماعات أيضاً مع برلمانيين مصريين وقادة المجتمع المدني وممثلي المجموعات الليبرالية والعلمانية وحتى الإسلامية". يريد ماكين، وقبله نائب وزير الخارجية بيل بيرنز، الذي أدلى بتصريحات مشابهة الأسبوع الماضي، الإيحاء بأن واشنطن تعتقد أن المجلس العسكري ليس قادراً وحده على حل أزمة المنظمات، وهو أمر ليس له سوى تفسيرين؛ أولهما أن مصر دولة ديمقراطية لا يتم التأثير في سلطتها القضائية من قبل أي سلطة أخرى، وثانيهما أن القادة العسكريين لم يصبحوا قادرين على التحكم في الأمور ذات الطبيعة الاستراتيجية، لأنهم لا يحكمون وحدهم، لذلك سيتم التحاور مع "أصحاب المصلحة" الآخرين، الممثلين في "البرلمانيين وقادة المجتمع المدني وممثلي المجموعات الليبرالية والعلمانية وحتى الإسلامية". يبدو التفسير الأول مستبعداً بطبيعة الحال؛ فليس هو الأقرب للواقع، ولا للفهم الأميركي له، ولا هو ما تفضل واشنطن أن يكون قائماً عشية رحلة ماكين؛ الذي ما كان ليهدد العسكريين بـ"خطورة المسألة"، أو يكلف نفسه عناء السفر للقائهم، لو كان يعلم أنهم بلا قدرة حقيقية على حل الأزمة. لن تحدث "قطيعة كارثية" في العلاقات المصرية- الأميركية في تلك المرحلة، لأن واشنطن لا تريد ذلك، ولا تفضل دفع تكاليفه، ولأن مصر أيضاً لا تريد ذلك، ولا تقدر على دفع تكاليفه. لا العسكر يريديون قطع العلاقات مع واشنطن، ولا البرلمان، ولا "الإخوان"، ولا "السلفيون"، ولا "الليبراليون"، ولا حتى "الأغلبية الصامتة"؛ فلماذا إذن تم تفجير تلك الأزمة الآن؟ لا يبقى قائماً سوى تفسيرين أساسيين لهذه الأزمة؛ أولهما أن تلك المنظمات ترتكب أخطاء ومخالفات قانونية ذات تأثير يمس أمن الدولة فعلاً، ولذلك فإن السلطات المعنية تتخذ الإجراءات اللازمة بحقها بمعزل عن أي تقدير استراتيجي، وهو أمر طيب نأمل أن تصل إليه مصر وكل دولة عربية يوماً، وإن كنا نعلم أننا مازلنا بعيدين جداً عنه. وثانيهما أن "المجلس العسكري" يريد أن يثبت لواشنطن، التي تهيئ نفسها للتعاون مع الإسلاميين أصحاب الأغلبية البرلمانية كحكام المستقبل، أن "حل الأزمة في يده" على عكس ما يقول ماكين. منذ أن هيمن الإسلاميون على أكثر من 70 في المئة من مقاعد مجلس الشعب المصري، باتوا يتعاملون على أنهم "حكام مصر الجدد"، في ظل قدرتهم المفترضة أيضاً على دعم رئيس وإيصاله إلى كرسي الرئاسة، عبر هيمنتهم الواضحة على الشارع. ولم يقتصر الأمر بالطبع على الداخل المصري الذي أصبح يعرف قدرة الإسلاميين ومدى اتساع هيمنتهم، لكن الخارج أيضاً بدأ يتعامل مع مصر باعتبارها مشروعاً للحكم ذي الطبيعة الإسلامية، وهو الأمر الذي كرسته واشنطن عبر العديد من اللقاءات والتصريحات. ومنذ أعلنت نتائج المنافسات البرلمانية لم تتوقف التصريحات الرسمية الأميركية المرحبة بتقدم الإسلاميين، وغير الممانعة في وصول "الإخوان" إلى الحكم، كما تواصلت اللقاءات المعلنة وغير المعلنة معهم داخل مصر وخارجها، بل قام بعض كبار رجال السياسة الأميركيين بزيارات لافتة لقيادات "الإخوان" في مصر، وتحدثوا معهم باعتبارهم "مشروع السلطة المستقبلية". يريد "المجلس العسكري" أن يؤكد لواشنطن أنه يحكم البلاد، خصوصاً في الجانب السيادي والاستراتيجي، وحينما تخبره واشنطن أنها مازالت تعرف ذلك، فإن أزمة المنظمات ستحل، دون أن تحدث "قطيعة كارثية"، ودون حاجة إلى تدخل آخرين، سواء كانوا "ليبراليين" أو "مجتمع مدني" أو حتى "إسلاميين يهيمنون على الشارع والبرلمان". * كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
هل هي قطيعة كارثية بين القاهرة وواشنطن؟
19-02-2012