في مقال أمس وتحت عنوان "البحث عن الضمانات في قرارات المحكمة الدستورية" تناولت مطالبة البعض بأن يتاح حق النقد لقرارات التفسير التي تصدرها المحكمة الدستورية، وقلت إنه حق ومطلب مشروع، وفي سياق تقديري وتقييمي لقرار المحكمة الدستورية في تفسيرها للنصوص الدستورية التي تعرضت لها في طلب التفسير رقم 10 لسنة 2011، وقلت إن المحكمة كانت موفقة وملهمة في هذا التفسير، ونسوق للتدليل على ذلك مجمل ما استندت إليها المحكمة من أسباب في تفسيرها في ما يلي:

Ad

تفسير النصوص الدستورية

وقد استخلصت المحكمة الدستورية، تفسيرها للنصوص الدستورية، التي كانت محل بحثها من مجموع المصادر عندما قررت أن هذا النظر الذي أخذت به يؤكده صريح حكم الدستور الذي لم يقتصر على نص واحد، إنما تناولته نصوص متعددة يقوي بعضها بعضا وتنتهي إلى هذا النظر، ويساند ذلك ما جاء بالمذكرة التفسيرية، ومناقشات المجلس التأسيسي في هذا الصدد إبان إعداد الدستور في مراحله الأولى التي تلقي بظلالها على تأكيد هذا المفاد.

وقالت إنه إذا كان الأصل في تفسير النصوص القانونية وتفهم مدلولها أن تُحمل ألفاظها على ما يقضي به الاصطلاح والعرف القانونيان، وإذا اختلف المفهومان في الحكم والسبب يُعمل بكل منهما في مجاله، كما أنه من أصول التفسير أيضاً ألا تُحمل النصوص على غير مقاصدها وألا تُفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها أو يؤول إلى الالتواء بها عن سياقها.

المسؤولية السياسية والسلطة

وفي تفسير النصوص الدستورية المتعلقة بالمساءلة السياسية وبعد أن استعرضت المحكمة الدستورية نصوص المواد (52) و(54) و(55) و(58) و(98) و(101) و(102) و(123) و(127)، خلصت إلى أن المسؤولية السياسية ترتبط ارتباط لزوم بوجود السلطة، وأن الدستور قد نص على مسؤولية كل وزير لدى مجلس الأمة عن أعمال وزارته، مع جواز سحب الثقة منه وفق إجراءات حدوثها- المادة (101) من الدستور، كما نص على ألا يتولى رئيس مجلس الوزراء أي وزارة ولا يطرح الثقة به (م 102).

وترتيباً على ذلك فقد انتهت المحكمة في أسباب قرارها بالتفسير إلى:

1- أن الدستور أعطى سلطات واسعة للسلطة التنفيذية وقرر مبدأ المسؤولية الوزارية، وأبان ضوابطها وأحكم قواعدها، باعتبار أن هذا المبدأ هو محور النظام الدستوري الذي تبناه وجوهره، وحجر الأساس فيه، وحدد وسائل الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة، وجعل لمجلس الأمة إزاء الوزراء حقاً هو المسؤولية الوزارية، وحقاً متفرعاً منه هو الاستجواب، وأحاطه بسياج من الضمانات والإجراءات المقيدة منعاً من التسرع والإسراف فيه والذي لا يخفى على أحد أثرهما وخطرهما على الشؤون العامة.

2- إن كل استجواب يراد توجيهه إلى رئيس مجلس الوزراء ينحصر نطاقه في مجال ضيق، وهو في حدود اختصاصه، في السياسة العامة للحكومة، باعتبار أن رئيس مجلس الوزراء هو الذي يتكلم باسم مجلس الوزراء، ويدافع عن هذه السياسة أمام مجلس الأمة، دون أن يتعدى ذلك إلى استجوابه عن أي أعمال تنفيذية تختص بها وزارات بعينها، أو أي عمل لوزير في وزارته، وإلا أصبحت جميع الأعمال التي تختص بها الوزارات المختلفة محلاً لاستجواب رئيس مجلس الوزراء عنها، وهو ما يتعارض مع صريح حكم الدستور، ويفضي إلى سيل جارف من استجوابات لرئيس مجلس الوزراء، وفي ذلك ما فيه من عظيم الخطر بتعطيل الأعمال من غير حد ولا ضابط.

ضوابط للاستجواب

وفي ممارسة حق الاستجواب، استلهمت المحكمة الدستورية بعض المبادئ والضوابط فيما يلي:

1- التعاون المنشود بين السلطتين

إذا كان من الواجب استقلال كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن التعاون بينهما أوجب، ولكن التعاون لا يتحقق مع دوام التصادم، وبالتالي فإن المسؤولية السياسية لدى مجلس الأمة إنما تقع على عاتق الوزراء فرادى.

2- الأعمال والمبادئ لا الأشخاص

وقد أخذت المحكمة بعين الاعتبار وهي تتناول التعاون بين السلطتين ما قررته من أن المسؤولية السياسية لا ينبغي أن يساء فهمها بصرفها إلى الأشخاص لا إلى الأعمال والمبادئ.

3- الاستجواب مقيد بالمصلحة وحسن الاستعمال

وأنه إذا كان الدستور قد خول لعضو مجلس الأمة حق الاستجواب، فإنه ليس معناه أن يتصرف كما يشاء أو يهوى، إذ إن الواقع أنه مقيد بالمصلحة العامة وحسن الاستعمال، والأصل أن العضو أهل لتقدير هذه المصلحة على وجهها الصحيح.

ما لم تقله المحكمة

إلا أن ما كان يصلح أن يضاف أساساً إلى قرار المحكمة بتفسير النصوص الدستورية الخاصة بالمساءلة السياسية، ولم تقله المحكمة، هو أن تؤسس المحكمة تفسيرها كذلك على الأحكام الشرعية في المحاسبة والمساءلة، وهو أن المسؤولية شخصية، فلا يسأل عن الفعل إلا فاعله، ولا يؤخذ امرؤ بجريرة غيره، وهو مبدأ من المبادئ السامية في المساءلة في أحكام الشريعة الإسلامية، قرره القرآن الكريم في كثير من آياته البينات من ذلك قوله تعالى "وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا "- (الأنعام 164)، "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"- (فاطر 18)، "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"- (النجم 39)، "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا"- (فصلت 46)، "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ"- (النساء 123)، وهو ما ردده الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه الذي يقول فيه "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه".

وهو مبدأ لم تصل إليه الدساتير والقوانين الوضعية إلا بعد ثلاثة عشر قرناً، ومن بينها دستور الكويت الذي نص على المسؤولية الشخصية فيما قضت به المادة (33) من أن العقوبة شخصية، وطالما أن العقوبة شخصية فالمسؤولية شخصية.

وإذا كان هذا المبدأ يهيمن على المساءلة الجزائية أصلاً وأساساً، وكانت المحاسبة السياسية تتعدى أفعال الوزير إلى أفعال غيره، الذين يخضعون لإشرافه ورقابته، وأن مسؤولية الوزير السياسية في هذه الحالة تقوم على تقصيره في الإشراف والرقابة، فإن المساءلة السياسية لا تزال تدور في فلك الأصل العام، وهي المسؤولية الشخصية، والتي لا تجيز توجيه استجواب إلى رئيس مجلس الوزراء في عمل من أعمال التنفيذ أو الإشراف والرقابة التي يتولاها الوزراء.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.