تنهض الأمم بحداثة المعاني، ومن ثم بحداثة المباني. لا غنى للإنسان عن تحويل أفكاره إلى منجزٍ ماثلٍ أمامه، لتنمو الحياة وتزدهر، وتغدو أكثر رقياً وسهولةً.

Ad

في الخليج تعثرت حداثة المعاني أحياناً، ذلك أن الممانعة الاجتماعية بوجه الأفكار الحداثية كانت كبيرة، ساعدت التيارات المتشددة على أن تحول بين الناس وبين حداثة المعاني، حاول المفكرون في الخليج مثل غازي القصيبي، ومحمد جابر الأنصاري، وتركي الحمد، وعبدالله الغذامي، وسعد البازعي، وأحمد البغدادي، وخلدون النقيب، وسواهم من الجيل الكبير الذي صارع من أجل أن يُدخل حداثة المعاني إلى الخليج، غير أن محاولاتهم وإن لم تنتشر في وقتها، فإنها اليوم بدأت تشق طريقها نحو الانتشار.

بعض الأفكار ترفض في البداية، لكن الزمن بمروره يحولها إلى بدهيات اجتماعية، هكذا أرى الجيل الحالي في الخليج الذي صار يقرأ لأولئك الأدباء والمفكرين الذين طرحوا أفكاراً حول النهضة وتجديد الخطاب الديني والتسامح والتنمية والتعامل مع الآخر.

الجيل الذي يبحر بين العشرين والثلاثين من عمره في الخليج، لم تفتك به أفكار ثمانينيات القرن الماضي كثيراً، لأنهم ولدوا بعد انتهاء ما سمي بـ"الجهاد الأفغاني"، ربما مسّتهم موجة الصحوة الإسلامية قليلاً، غير أنهم سرعان ما تعافى أكثرهم منها، أما استقطاب القاعدة وتأسيسها فهي أيديولوجياً ليست منفكة عن أفكار الثمانينيات من القرن الماضي التي صنعت في التجمعات الأصولية في ساحات أفغانستان وباكستان. الذي أشاهده الآن من بين أولئك الشباب سواء في الواقع الحقيقي أو الواقع الافتراضي "الإنترنت" مذهل، ينشغل الشباب بحداثة المعاني، من روايات وآداب وأفكار وفنون، وهذا الانشغال لم يأتِ من فراغ، روايات المرحوم غازي القصيبي، وكتب الراحل أحمد البغدادي تنتشر، وكذلك الأمر في كتب المفكرين الخليجيين.

لقد زرعوا خلال نصف القرن الماضي بذوراً لحداثة المعاني، وهي اليوم توشك أن تزهر، بل أزهرت وأينعت، وأرض حرثهم اهتزّت وربت وأنبتت من كل فكرٍ وإبداعٍ بهيج. عشرات الروايات والدواوين الشعرية وغيرها من الأعمال يكتبها الشباب وتكتبها الفتيات، وهذا فتحٌ مهم من أجل بناء صرح حداثة المعاني الكبير الذي نحتاج إليه لتأسيس تنمية فاعلة وجيل خلاق.

لا ننسى الابتعاث ودوره في كل دول الخليج، وخصوصاً السعودية، التي ابتعثت أكثر من مئة ألف شاب وشابة، وستنتج هذه الخطوة أيضاً حداثة المعاني التي نحن بأمس الحاجة إليها. إذا رجعنا بالذاكرة إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي وقرأنا الكلام الذي قيل ضد المفكرين والتنويريين، نجد الهجوم الشديد، حين تأخذ وزيراً تنويرياً مثل غازي القصيبي تعثر على هجوم كل رموز الصحوة عليه، قصائد هُجي بها، وكاسيتات، ومطويات، وإذا رجعت إلى ما كتبه فستجده كله في صالح المجتمع، رؤى تنويرية لا تتعارض أبداً مع أصول الدين، بل إن كتابه: "ثورة في السنة النبوية" كتاب فقهي، ضمنه القصيبي آراءه الفقهية المستنيرة. مما يعني أن هناك موجة غضب وتشويه لحداثة المعاني كانت غير مبررة، وساهمت في تغييب ذلك الفكر، وصعود الكاسيت والمطويات آنذاك على حساب الكتاب الجاد.

لكنني الآن أرى عودة الكتاب الجاد إلى أيدي الجيل الحالي، وهذا مبهج، من الطبيعي أن ترى كتب الأنصاري أو خلدون النقيب أو البازعي بين أيدي الشباب، يتصفحون ويقرأون، في أفكار دقيقة تتعلق بالحداثة والحضارة والنهضة والتنمية، وهذا التحول يأتي من بين تحولات كثيرة وعديدة نشهدها في الخليج، والذي يقرأ ويتأمل يدرك أننا نسير باتجاه مميز باتجاه حداثة المعاني وبخاصةٍ بعد انهيار القاعدة وتنظيمها، فهو التنظيم الجريح.

مع حداثة المباني الرائعة في الخليج، لا بد من حداثة المعاني، وكلاهما يكمل الآخر، بل يصحح الآخر، ويحرس الآخر.