شِعر ما بعد الحداثة تيار طليعي وتجريبي. وهو، شأن كل التيارات الطليعية والتجريبية في الأدب، بدأ بفعل عوامل تُشكل الثروة والازدهار المادي أحد أهم دوافعها. إن السبعينيات، من القرن الماضي، التي شهدت محاولات أدب ما بعد الحداثة أو «أدب اللغة» – كما هو شائع في المصطلح النقدي – إنما جاءت على أثر مرحلة يقظة اقتصادية وصناعية عرفتها بريطانيا بعد أزمة السويس. فقد أفادت من النمو والتنظيم الاقتصادي المتفوق، اللذين أصبحت عليهما أوروبا الغربية وانضمت إلى سوقها المشتركة بعد عدة محاولات فاشلة.

Ad

إن أول علامات الحركة الشعرية المتعافية هذه هو اهتمامها أو انشغالها بموضوع اللغة. وأصبح النص الشعري يقرن، من حيث التأثير، بالفيلم السينمائي والتلفزيون، لأنه نتاج تزاوج بين ما هو بصري وما هو قاموسي، متوسلاً لهذا التأثير بالكولاج حيناً، وحيناً بفن الطباعة وصفِّ الأحرف. وينتفع أحياناً أخرى من تقنيات الطابعة اليدوية منصرفاً إلى الشكل البصري دون الالتفات إلى المعنى. ويتجاوز هذا إلى جهاز التسجيل الصوتي، فيشكل النص «قصيدة الصوت».

لقد أسهم النقد ونظرياته (التفكيكية على وجه الخصوص) في تشغيل ماكنة «أدب اللغة» إلى أقصاها، ورفض المعنى المحدد، وإثارة مزيد من فورات الخروج عن «اللغة» الواقعية، واللغة كوسيلة إيصال...

بدأت الحركة في أوائل السبعينيات كحدث غير ملحوظ تقريبا داخل حركة ما بعد الحداثة الواسعة، ثم نشطت في الثمانينيات. ولعلها في ذلك الحين فقط استطاعت أن تحظى بالانتباه، من الناحيتين العملية والنظرية».

إن شعر ما بعد الحداثة هو شعر جملة ذهنية، يربطها بالنثر النقدي والفلسفي أكثر من وسيلة. وهذه الجملة لا هوية لها محددة مسبقا. فأنت أحيانا قد يستعصي عليك الحكم على نص لا تجده ينتسب إلى «النثر» أو «الشعر» أو «النقد». ومن هنا تتأتى صعوبة النص الجديد. وهي صعوبة لا تشفع لها الشروح والهوامش، لأنها من صلب تكوين الجملة التي قد تبنى على الفوضى النحوية عن قصد.

النص الشعري هنا يعتمد على «اللغة» لا على «رؤيا» الشاعر. فهي التي تمده بالمجازات، والفانتازيا فيها لا تشبه الخيال الرومانتيكي، لأنها وليدة علاقات غير منطقية بين المفردات، وعنصر الإثارة فيها جوهري.

شعراؤها ينتسبون إلى أجيال الثلث الأخير من القرن العشرين، وهي أجيال متقاربة في انكلترا وأميركا. وأصواتهم، كما يبدو، ليست على صلة وثيقة بالمناخ الشعري الشائع. ولذلك ظلت أصواتاً غير مألوفة، لعل أهمها صوت سوزان هاو التي بدأت قصيدتها بتقنية مطبعية، حيث وضعت بعض السطور مقلوبة، وقراءتها تستدعي أن تقلب الصفحة كاملة. ومع هذا فأنت في النهاية لا تقع إلا على جمل مبتورة: «توقف عن الالتصاق بي/ إنه لم يترك الأرض/ مشهد التعرف /تلك أفكار...»

أما بوب بيرلمان، فتتحكم في قصيدته تركيبة رياضية وهندسية في توزيع المفردات، فيكون ما هو بصري ومسموع العنصريْن الأساسيين، ويكون الإدهاش هو الثمرة:

«مالكاً/ مالكاً ذلك/ مالكاً ذلك الذي فُقدانه/ مالكاً ذلك الذي فقدانه سيثأر له/ مالكاً ذلك الذي فقدانه سيثأر له من قبل تاريخ متواصل...» بينما تذهب تينا داراف إلى أبعد من كل هذا في نصها الذي لا تشكل بنيته الكلمات بل الخطوط، فهو نص بصري مطلق... الخ

طبعا هناك جملة من الشعراء لا يعمدون إلى التشكيل السطحي (ما يعتمل على السطح) بل تحاصرهم فكرة، وهذه الفكرة الملحة تأخذ مداها في فانتازيا اللغة. توم ماندل يكتب عما هو مرئي:

«بدون ضوء لا شيءَ مرئيٌّ/ بدون وسيط شفافٍ لا شيءَ مرئيٌّ، ولا شيءَ غير محدود مرئيٌّ أيضا/ بدون لون لا شيءَ مرئي/ لا شيءَ مرئيٌّ إلا من بعيد/ وبدون وسيلة لا شيء مرئي...»

لا أثر لهذه الأصوات اليوم، ولا أثر لما بعد الحداثة الشعرية. ولعل ما بعد الحداثة في جملتها أصبحت في خبر كان. ما يؤكد ذلك المعرض الاستعادي الضخم الذي يعده متحف «فكتوريا وألبرت» ليُفتتح بعد أيام. ولنا حديث فيه قادم.