صيام رمضان في المدن الأوروبية صعب، وذلك لطول النهار عندهم وقصر فترة الليل ما يجعل فترة الصيام تمتد الى 18 ساعة، وذلك من وقت الإمساك وحتى ساعة الإفطار.

Ad

لكن الصعوبة تهون وتتلاشى مع التعود عليها بمرور الوقت، وتبقى المشكلة التي تهدد الصائم هي قلة كمية الماء التي يحتاج إليها الجسد خلال مرور هذه الساعات الطويلة، فالوقت المتبقي من بعد الإفطار لا يسمح بشرب الكمية الكافية منه.

ورغم طول فترة ساعات الصيام فإنها تمر بسهولة في هذه الطبيعة الخلابة التي تبرز عظمة الخالق جل جلاله، وتجعل قلب المرء يخفق من الخشوع، ويهفو إلى هذا الرب العظيم الذي أحسن خلق هذا الجمال بكل هذه الأبهة الباذخة في اكتمال حسنها الذي تعجز أن تجد فيه خطأ ما أو أي نقصان، فكل ما فيها ميزانه مضبوط لدرجة تحير الناظر إليها أيها الأجمل أو الأكمل أو الأبهى أو الأحسن؟

كل ما في الطبيعة يقود إلى المزيد من الخشوع وتبتل الروح والعقل والقلب في حب خالق هذا الكون ومبدعه، وعندما أتطلع إليها من قمة منطقة كلينوفيتس التي تقع على الحدود الألمانية التشيكية، وأرى الغابات الممتدة ما بين الجبال والسهول المتموجة الألوان والمتداخلة في بعضها البعض لدرجة تذهل العين فتدوخ في مهرجان الألوان، ألوان... ألوان، بحر من الألوان أبدعها الخالق العظيم وليس للإنسان أي فضل عليها، فالطبيعة هنا بريئة، لم تعبث بها يد الإنسان، فالغابات كما هي منذ خلقها الأول، والسهول أيضا كما هي اللهم إلا من وجود القليل منها المزروع بالقمح والذرة المتداخلة في المشهد الجميل التي يضفي حصادها على الطبيعة صفرة بهيجة تقلل من دكنة الغابات المسيطرة على المكان كله.

« اللاند سكيب» العجيب هذا الذي يعجز عن انجازه أمهر المهندسين، هو من تصميم الخالق العظيم الذي أبدع فسوى، هذا الخلاء البهي الصامت في سكون البراءة الأولى البعيدة عن أي خدش أو جرح مما يأتي به الإنسان تحت أي مسمى من مسميات الحضارة المفسدة لطبيعة المكان والملوثة لروحه، والطامسة لهويته.

هنا في هذه الطبيعة المبهرة لا يملك القلب إلا أن يتعبد ويزداد في إيمانه ويتعمق في فهمه، فكل المعطيات هنا تشهد أن لا إله إلا الله، فهو القادر وحده على خلق هذا الإبداع كله، ما يجعل العقل يغيب في تأمل هذا الجمال وتفاصيل تفاصيله، التي لها بداية وليس لها نهاية، ناهيك عن هذا السكون الجليل المطوق للمكان بغموض الأسئلة التي لا تعرف الإجابة.

صمت بليغ، وهدوء وسكينة تجعل الروح تغيب في سيمفونية اكتمال خلق حيث تتماهى الطاقة مع منبعها لتتحد بسرها الخفي، الغائر في هذا الوجود المحتشد في طاقته الحيوية العجيبة.

خلو البدن في صيامه وصعوده في شفافيته من بعد تخليه عن كل أدرانه وكل ما يشغله ويثقله، يجعلان لكل لحظة تمر هنا معنى وتفسيرا مختلفا جديدا، ويصبح للعقل إدراك آخر ووعي أوضح وأعمق وأكبر.

هل لأن الخلوة في سكون هذه الطبيعة المذهلة في جمال صمتها وسر خلودها تدفع بالمؤشر الروحاني إلى أقصى تراتيله؟

أم أن البعد عن ملوثات الحضارة هو ناقوس صحوة الروح والعقل والقلب؟

الضجيج المحاصر بكل هذه الضوضاء للحضارة العصرية الحديثة ينزع من الإنسان كل طاقاته التي لا يستردها إلا من بعد تخليه عنها.

بعيدا... هنا حيث هذه البراءة القادرة وحدها على إعادة شحن طاقة الروح والجسد وإعادة تأهيلها، هذه الطاقة التي تستلبها الحياة المعاصرة منا قطرة قطرة، مع ضرورة العيش في حضارة لابد منها.

هنا... يصبح رمضان له معنى أكبر وأعمق وأشمل، مطوق بالصمت وبالتأمل وبالذوبان في وسع هذا الكون، والحمد والتسبيح لخالق هذا الكون.