النجوم وأرصفة الحياة
الإنسان كائن عجيب! تراه في عموم أيام حياته يمشي في "ظل الحائط"، متسربلاً بالاعتيادية، مرتدياً نمطيته وملامحه اليومية التي لا تنفك ترتسم أمامه بالمرآة حدّ الملل! تراه فلا تعيره انتباهاً، إلا إذا أعرتَ السابلة والسائرين الكثر على أرصفة الحياة نظرة أخرى!
ولعل نصيب أصحاب المظهر الاعتيادي أو الأقل من اعتيادي، يتضاءل في زحمة الحياة، فلا يعيرهم أحد التفاتاً أو نظرة ثانية، خاصة إذا تزامن مظهرهم الاعتيادي مع زهد في الإعلان عن الذات بشتى وسائله الكلامية أو السلوكية. العجيب أن معظم هؤلاء المتقشفين في المظهر والسلوك، هم من ألمع العقول، والأقدر على الإبداع ورفد الحياة بالمنجزات في شتى مجالاتها! تُرى لو رأيتَ وأنت سائر في طريق الحياة الجاحظ وهو يقلب مخطوطاً في مكتبة عامة، أو مررتَ بنجيب محفوظ وهو ينزوي وراء نظارته السوداء في "ستار بكس"، أو لمحتَ خيال بدر شاكر السياب في نحوله يجرّ ساقيه جراً وهو يقطع الشارع، أو صادفت فان جوخ في شحوبه وتهافته في "سوبر ماركت"، وهو يكلم نفسه ويشتم، أو اصطدمتَ بكتف "عبده خال" في سوق السمك، ولم تكن تعرف أياً منهم، فهل ستدرك في تلك اللحظة الخاطفة مَنْ هؤلاء؟ أم ستسقط لحظتك الباهرة كقطرة ماء هينة في نهر يومك اللاهث بالروتين واللامبالاة؟ قد تكون معذوراً في هذه "اللامبالاة"، فالحق أن هؤلاء وغيرهم من المؤثرين والمتميزين لهم لحظاتهم المبهرة، التي يخرجون فيها من الاعتيادية والنمطية في التفكير والسلوك، فتنشق لهم تلك العتمة ويسطعون كانفجار نجم. ربما للحظة أو يوم أو بضعة أيام أو شهور، هي عمر ما يسمى لحظة اللإلهام أو التجلي. ولكنهم سرعان ما يخفتون وتبرد جذوتهم، فيعودون إلى الاعتيادية، والسير في الطرقات مع السابلة والمارة الذين لا يعرفهم أحد. بل إن أمر الحياة المعيشة لهؤلاء قد يزداد وطأة، فمعظمهم – خارج لحظته المبهرة – قد يبدو متحفظاً أو خجلاً، أو باهتاً حدّ السقم، أو متهافتاً هشاً لا تستقيم له مقولة أو فكرة أمام الكاميرات أو الجمهور، فيفضل الانزواء خشية من هذا الحرج. والأمثلة على ذلك كثيرة. فنحن لم نشهد على الإطلاق فيروز أو فاتن حمامة أونازك الملائكة أو غادة السمان في مقابلة تلفزيونية مسجلة أو بث إذاعي قط!! وهن من هن، كلّ في مجالها! وعُرف عن أحمد شوقي وإبراهيم ناجي والمازني خجلهم المفرط في مواجهة الجمهور، فاستعان شوقي وهو أمير الشعراء بمن يلقي قصائده في المحافل والمناسبات! أما الإعلامي المعروف مفيد فوزي، فقد صرح في أكثر من مقابلة معه، بأنه يعاني من الخجل والانكفاء على الذات خارج إطار الكاميرا. وقد عبر عن ذلك بأنه في الحياة العامة يبدو باهتاً حيياً لا يجلس إلا على أطراف المجالس كأي نكرة، منكفئاً على تحفظه ووحدته. وقد شهدتُ شخصياً مجموعة من المقابلات، ضمن برنامج "أوبرا" الجماهيري، مع نجوم الغناء والتمثيل، ممن ملأوا الساحة صخباً وإبداعاً، فبدوا أثناء المقابلات باهتين متلعثمين، يتململون اضطراباً أو خجلاً، وقد غادرتهم هالة الإبهار التي طالما كانت علامة مميزة في مسيرتهم الفنية. من هؤلاء مايكل جاكسون، وسيلين ديون ذات الصوت الخارق والأداء المؤثر، ونيكول كيدمان الفائزة بالأوسكار عن أدوارها المميزة، وتينا تيرنر التي تربعت على عرش موسيقى البوب منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وغيرهم كثير. تلك هي أطوار المبدعين وبعض من غرائبيتهم. وعلى الضفة الأخرى من الحياة، خارج إطار الموهبة والتميّز، هناك من يملأ الحياة صخباً وهرجاً، وهو فارغ كالطبل، عقيم كحشفة بالية!! فسبحان الله مبدع الإنسان، ومقسّم الأرزاق!