مصر... سحل الدولة وتعريتها

نشر في 25-12-2011 | 00:01
آخر تحديث 25-12-2011 | 00:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز "طز في مصر... وأبو مصر... واللي في مصر"، كانت تلك هي العبارة الملتبسة التي قالها المرشد السابق لجماعة "الإخوان المسلمين" الأستاذ مهدي عاكف، حين سُئل في حوار صحفي تم نشره في عام 2006، عن كونه "لا يمانع أن يحكم مصر غير مصري طالما كان مسلماً".

يستطيع مؤيدو الرجل بالطبع التماس بعض الأعذار له، خصوصاً أنه من مواليد عام 1928، وقد تعرض للسجن المشدد مرات عدة في عهود مختلفة، وتخلى طائعاً عن فرصته في المنافسة على موقع المرشد لولاية ثانية العام الماضي، ضارباً المثل في عدم الرغبة في الاستئثار بالسلطة، كما أنه من هؤلاء الذين لا يجيدون فن الحديث إلى وسائل الإعلام على أي حال.

وبعيداً عن فداحة ما قاله المرشد السابق لـ"الإخوان" في حق أعرق دولة في التاريخ، وبعيداً عن الجرح الذي سببه هذا التعليق الحاد لعشرات الملايين من أبنائها، فإنه، رضينا أم أبينا، يكشف عن مفهوم ملتبس للدولة في فكر قطاع من قيادات "الإخوان"، مفهوم يمكن اعتباره "فوق الدولة"، كما يمكن رده إلى فكرة "الخلافة الإسلامية"، التي لا تقوم الدولة فيها على فكرة المواطنة بقدر ما تقوم على فكرة الدين.

يظل الدين الركن الأساس في فكر "الإخوان" السياسي بالطبع؛ فعندما وزعت الجماعة نسخة عن برنامج مقترح لتأسيس حزب في عام 2007، تضمن النص تشكيل "هيئة منتخبة من علماء الدين"، يلتزم المجلس التشريعي المنتخب بعرض كل القوانين عليها قبل إقرارها.

كانت تلك محاولة لوضع سلطات الدولة المدنية تحت سلطة دينية، وهو الأمر الذي قوبل بهجوم حاد من مختلف الفصائل السياسية، بما فيها بعض فصائل الإسلام السياسي الأكثر انفتاحاً، حيث اُعتبر الاقتراح بمنزلة تكريس لفكرة الدولة الدينية، على طريقة "ولاية الفقيه" في إيران.

تظل فكرة سيادة الدين، كما يفهمه منظرو جماعة "الإخوان"، في الدولة الإسلامية المبتغاة قائمة في كل الأوقات، مثلها مثل فكرة "الدولة الأوسع" من "الدولة الوطنية". لذلك، فإن المرشد الحالي الدكتور محمد بديع، قال في حوار تلفزيوني أُجري معه مطلع شهر ديسمبر الجاري، إن "مستويات منصب مرشد الجماعة أعلى من مستويات منصب رئيس الجمهورية، ليس في الصلاحيات، ولكن في الأمانة والمسؤولية".

ولهذا أيضاً لم يكن مستغرباً أن تستخدم الجماعة دعاية دينية مباشرة لضمان الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات التشريعية الجارية راهناً، وهي الدعاية التي قيل فيها بوضوح وإلحاح "صوّت للإسلام... انصر الشريعة... لا تنتخب العلماني أو الليبرالي" سواء من هؤلاء الذين يطوفون بالسيارات على اللجان، أو أولئك الذين يخطبون في المساجد، أو حتى بعض علماء الدين المعتبرين من أمثال الدكتور يوسف القرضاوي.

أما السلفيون، وهم الفصيل السياسي الطارئ على الحياة السياسية المصرية، والذين يتجهون إلى الفوز بنحو ربع مقاعد البرلمان في جولتهم السياسية الأولى، بعد عقود من مقاطعة الانتخابات و"تكفير الديمقراطية" و"تحريم الخروج على الحاكم"، فإنهم أكثر إخلاصاً لفكرة الدولة الدينية، وهي فكرة تتصادم من دون شك مع فكرة الدولة الوطنية بمفهومها السياسي والجغرافي.

ولذلك، فإن معظم التظاهرات، التي شارك فيها السلفيون بكثافة، شهدت رفع أعلام دول إقليمية أخرى، بينما يرى أحد أقطابهم المهمين وهو الشيخ ياسر برهامي، أن الغرض من الدولة في الإسلام "إقامة الدين"، كما قال في حوار أُجري معه خلال شهر ديسمبر الجاري. أما أهم شيوخهم على الإطلاق، وهو الشيخ محمد حسان، فلا يرى أن هناك ما هو أعلى من "الأخوة الإيمانية"، وهي الأخوة القائمة على "الإيمان"، في محاولة لإعلاء "قيم الأخوة الإسلامية" على "قيم الأخوة الوطنية" التي تجمع المصريين المسلمين والأقباط في أجواء العملية الانتخابية، وهو ما يكرس التصويت على أساس طائفي بطبيعة الحال.

لا يتعرض مفهوم "الدولة الوطنية" المصرية، التي هي أقدم وأعرق دولة في التاريخ، للانقضاض من قبل الجماعات السياسية ذات الإسناد الديني الإسلامي فقط، ولكنه يُنتهك ويُغرى به أيضاً من قبل فصائل سياسية يسارية متشددة.

كانت ثورة 25 يناير عند اندلاعها ثورة ذات اقتراب يساري في الأساس، وقد اتضح ذلك من شعاراتها التي تم الاستقرار عليها لأطول فترة ممكنة، والتي تطالب بـ"الخبز... الحرية... العدالة الاجتماعية... الكرامة الإنسانية".

لكن فصائل اليسار التي شاركت فيها منذ اللحظة الأولى، وبذلت أغلى التضحيات من أجل إنجاحها، لم تكن فقط فصائل اليسار الاجتماعي أو اليسار القومي أو يسار الوسط القريبة من الاعتدال والمجسدة لمعظم أفكار التيار الرئيس المصري، خصوصاً في ما يتعلق بضرورة جسر الفجوات بين الأغنياء والفقراء وتحسين شروط العيش للمهمشين والمضطهدين.

وعلى أقصى يسار الحركات التي دعت إلى ثورة 25 يناير وأبقت جذوتها متقدة بتضحيات كبيرة، ترابط حركة "الاشتراكيين الثوريين"، وهي حركة تستمد معظم أدبياتها السياسية من حركات اليسار المتطرف والنزعات "التروتسكية"، التي قمعتها الدولة السوفياتية، تحت قيادة لينين وستالين، بوصفها "تطرفاً سياسياً غير قابل للتحقق الآني غير المتدرج".

تجتهد بعض تلك الفصائل، ضمن تأثيرها في مسار ثورة 25 يناير، لتنفيذ رؤيتها التي تعتقد بصوابها، وهي رؤية "تفكيك الدولة" عبر "إسقاط الجيش" بوصفه "آخر الأعمدة الباقية في الدولة الظالمة الراغبة في إعادة إنتاج النظام السابق".

في الأسبوع الماضي، بدأت وسائل الإعلام المصرية تستضيف ناشطين من "الاشتراكيين الثوريين"، وهؤلاء لم يخفوا وجهة نظرهم أو عزمهم "إسقاط الجيش" لـ"هدم الدولة"، ثم إقامة دولة جديدة عادلة "أكثر ديمقراطية وأقل ظلماً وتحكماً".

والإشكال الكبير الذي يتعلق بهذا الطرح لا يكمن فقط في المخاطر التي تنطوي على "هدم الدولة" و"إسقاط الجيش"، وصولاً إلى تحقيق "الدولة العادلة" المبتغاة من وجهة نظر هؤلاء الناشطين المؤثرين، لكنه يكمن أيضاً في المفهوم الجديد للدولة التي يريدونها، وهي دولة "تحت الدولة"، بمعنى أنها على درجة من اللامركزية، وتقليص سلطات الإدارة، وإتاحة الحريات بأنواعها "المختلفة والمثيرة للجدل"، والحد من قدرة السلطات على استخدام "القمع الشرعي"، بحيث تضع مستقبل أقدم دولة مركزية في التاريخ في مهب الريح.

في الأسبوع الماضي، هيمنت على مصر والعالم أجمع صورة سحل متظاهرة وتعريتها في ميدان التحرير من قبل قوات الجيش التي سعت إلى فض اعتصام تحول إلى تظاهرة تخللتها بعض الحرائق وأعمال الشغب، وهي صورة جديرة بكل اهتمام بمثل ما تشيع من شعور بالقهر والمرارة والألم.

لكن الأسابيع التالية سوف تشهد هيمنة لصورة أخرى أكثر دلالة، تتعلق بمحاولة سحل أعرق دولة في التاريخ وتعريتها، مرة بسحقها من قبل فصيل امتلأت صناديقه بالأصوات التي قد تمكنه من العمل على تحويلها من دولة وطنية إلى جزء من دولة الخلافة، ومرة بضربها من قبل فصيل يريد تدميرها لتتحول إلى "طوباوية" غائمة الملامح، ومرة بتعريتها من قبل "عمود الخيمة الأخير... الجيش" الذي أضعفها وأهانها، فأغرى بها المتربصين.

* كاتب مصري

back to top