ملائكة الرحمة... وجوانبهم الشيطانية!
العنوان مستفز قليلاً، أدرك هذا، ولكن تمهلوا وسيتضح المراد.كثيراً ما يتم تناول مسألة العلاقة ما بين الطبيب والمريض، في مجتمعاتنا، من اتجاه واحد، والذي هو اتجاه أهمية تقدير المريض لتلك الخدمات الجليلة التي يقدمها الطبيب، والطواقم الطبية عموماً، له، وأهمية احترام المريض لمقدمي الخدمات الطبية، حتى درج في الاستخدام أن يسمى هؤلاء بملائكة الرحمة. لكن نادراً ما يتطرق الحديث إلى الاتجاه الآخر، وأعني اتجاه احترام مقدمي الخدمة الطبية، سواء الأطباء والممرضين أو غيرهم، للمرضى، ربما من باب أنه أمر بدهي تلقائي، لكنه في الحقيقة ليس كذلك.
وقد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء أن أتناول هذا الموضوع، في حين أني طبيب، يفترض أن يكون الاتجاه الأول أكثر استحواذاً على انتباهه واهتمامه، لكنني، وكما نقول في التعبير الدارج: "سأقص الحق من نفسي"، وأتكلم بلسان الخبير المعترف الذي يدرك أن ملائكة الرحمة ما هم إلا بشر في نهاية المطاف، وأن دراسة وممارسة الطب وفروعه وملحقاته ليست كافية مطلقاً لتجعل منهم ملائكة في الحقيقة، بل سيظلون بشراً يعتريهم ما يعتري البشر من ضعف في الأخلاقيات والتعاملات والتصرفات، وأن لهم جوانبهم البشرية الضعيفة، ولن أقول الشيطانية، التي قد تطغى عليهم كبقية خلق الله! كنت في سنغافورة الشهر الماضي، وتابعت حملة توعوية إرشادية وهي تنطلق في مستشفى سنغافورة العام، لتذكير الأطباء والممرضين وجميع العاملين في المجال الطبي بأخلاقيات ومعايير التعامل مع المرضى. كانت الحملة تركز على التذكير بمعايير أربعة، أولها ماهية الكلمات التي تقال للمريض، وثانيها نبرة الصوت في قول هذه الكلمات وإيصالها للمريض، وثالثها الإيماءات وسائر حركة الجسد أثناء الحديث مع المريض، ورابعها أهمية الإنصات والاستماع الجيد للمريض أثناء حديثه وبث شكواه. انطلقت هذه الحملة في سنغافورة وهي من الدول التي تعد الأكثر تقدما حول العالم في المجال الإداري والطبي والنظامي. وهذه معايير أساسية ومهمة يجب أن يلتزم بها كل طبيب، وعامل في المجال الطبي، عند التعامل مع المريض الذي لن يكون في حالة جسدية ضعيفة فحسب، بل في حالة نفسية منهكة قلقة أيضاً، ويحتاج الى هذا التعامل المعياري الدقيق، فمعالجة الجانب النفسي وتعزيزه يلعب بالغ الأثر عند معالجة أي مرض، مهما كان صعباً.وكفرد من أفراد الأسرة الطبية، أدرك تماماً أن هناك من أفرادها في واقعنا، من هم أبعد ما يكونون عن هذا التعامل الأخلاقي المتميز، ولن يعنيني أن أتطرق إلى نسبة هؤلاء وكم يشكلون من سائر الجسد الطبي حتى لا أستفز أحداً، لكنني سأكون إيجابياً وأعتبر أنهم لا يشكلون النسبة الأكبر، لكن هذا لن يمنعني من التذكير بأهمية وضرورة انطلاق حملات توعوية للأسرة الطبية جمعاء، لتذكيرها بهذه الأخلاقيات الطبية والإنسانية المهمة، وكذلك التذكير بأهمية وجود أدوات وآليات موزونة لرصدها ومتابعتها، وإنصاف المريض في حال خروج "ملائكة الرحمة" عنها وعدم الالتزام بها. وبالطبع يمكن لمثل هذه المبادرة أن تنطلق من وزارات الصحة نفسها، أو من خلال النقابات والجمعيات الطبية، أو من خلال أي مؤسسة نفع عام أو جماعة شعبية متصلة بهذا الشأن.هذا كان أملاً أتمنى أن أراه يتحقق في يوم من الأيام في بلداننا.