ثلاث ملاحظات في الوضع العربي الراهن
بعد أن تصور الباحثون عن التغيير أن الأمر قد حسم بخروج أو تنازل رأس النظام السابق في كل من تونس ومصر، يلاحظ المراقب أنه لم يتم «حسم» أي وضع آخر، ومازال القتلى يسقطون، أو المحتجون يطالبون بالتغيير، في ليبيا واليمن وسورية، وحتى في تونس ومصر الوضع الحقيقي- في العمق- بعيد عن الحسم، ومازالت المصادمات والاعتصامات جارية والاحتمالات القادمة لا تبدو كما أرادها أو يريدها «الثوار» الرومانسيون!وحدها البحرين، التي يحاول بعض المحللين من «الثورجية» في الفضائيات البعيدة عن الواقع، أو ذات الأجندات الخاصة، إقحامها في هذه «الظاهرة» التي هي على العكس منها تماماً، حيث بدأ «الربيع البحريني» قبل أن نسمع عن «الربيع العربي» بسنوات!
فمثلاً، أبلغ الرئيس الفرنسي ساركوزي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد البحريني الزائر أن فرنسا تدرك أن الديمقراطية في البحرين بدأت قبل المطالبات العربية الحالية بالديمقراطية، (والفرنسيون من الصعب أن ينال المرء منهم إقراراً بحقيقة!) أو كما قال عبدالرحمن الراشد، وهو معلق سياسي مشهود له بالمصداقية: «... وفي تجربة البحرين الحديثة في السنوات العشر الماضية هامش لم تمر بمثله أي دولة أخرى في الخليج من الحريات والتمثيل السياسي الحزبي والنيابي، ولا أعتقد أن القوى الشعبية البحرينية الأساسية، شيعية أو سنّية ستضحي بمكاسبها بالجري وراء شعارات طائفية... إلخ) (الشرق الأوسط 6-7-2011)، ويمكن الرجوع أيضا في الصدد ذاته إلى تحليلات الكاتب والمفكر الكويتي الكبير د. محمد الرميحي بشأن الأوضاع في مملكة البحرين.هذا فيما يتعلق بالبحرين المفترى عليها، أما الدول العربية الأخرى كليبيا واليمن وسورية، فقد أصبح التوجه للحوار هو سيد الموقف (وذلك ما ستحتاجه أيضاً تونس ومصر!)، فالأمر لم يحسم بعد، ولا بد من حوار أو»حل سلمي» يوصل إلى نهاية متفق عليها وإلا- وهذه هي الملاحظة الأولى- فإن البديل هو الحرب الأهلية التي لا يريدها أحد.إن القوى الدولية المعنية تدعو إلى حوار الإصلاح والأنظمة الحاكمة المعنية تعمل من أجل ذلك، تفادياً للمزيد من العنف... ولا بد من «صنع» وإن طال السفر!روسيا تقول إنه من «غير المقبول» توجيه اللوم إلى طرف واحد في الصراع، والسكوت عن الطرف الآخر، وروسيا عضو دائم في مجلس الأمن، أي تمتلك حق الفيتو، ويبدو أنها قررت العودة إلى الساحة الدولية كلاعب مستقل، له حساباته الخاصة. كما أن الصين وهي قوة دولية صاعدة لها موقف خاص بها.ثمة إعادة نظر جذرية وجدية فيما يحدث في العالم العربي. يقول كاتب حصيف من أبناء هذه المنطقة :»هناك من يريد ألا يرى فيما جرى في البلدان العربية إلا ثورة من أجل الحرية والديمقراطية في أزهى صورها... لذلك فهؤلاء لا يعجبهم انفجار العنف الطائفي والجماعات الدينية الإرهابية، وأكثر صور التزمت الفقهي، بشكل أكثر حدة بعد الثورات العربية. وسيحاول (هؤلاء) صرف النظر عن هذه الحقيقة وتأويلها بأي طريقة تخفيفية أو مؤامراتية (مشاري الذايدي، الشرق الأوسط 8-7-2011). وفي اتجاه معاكس لما كتبه من قبل نجد الصحفي البريطاني المختص بشؤون الشرق الأوسط باتريك سيل، يرى أن الديمقراطية تحتاج إلى أجيال لتتحقق، وأن «الابتعاد عن العنف هو استراتيجية أكثر فاعلية من استخدام القوة من أجل اقناع الأنظمة الاستبدادية بتغيير مسارها. ومن الأفضل دفع الناشطين في الربيع العربي أن يأخذوا في الاعتبار رسالة عبدالغفار خان، وهو قائد ديني مسلم وسياسي سابق في شبه القارة الهندية، دعا إلى معارضة غير عنيفة على [طريقة غاندي] (الحياة: 8-7-2011). أما الملاحظة الثانية، فهي التواتر في تصريحات بعض المسؤولين الغربيين من أن حركات «الربيع العربي» قد أجهضت «القاعدة». ولا نرى أن المسألة تنحصر في هذا التنظيم أو ذاك. فربما أدت ظروف خاصة بتنظيم ما إلى استئصال شأفته، لكن العبرة في غلبة الاتجاه العام الذي يندرج ضمنه ذلك التنظيم. إذا كان المقصود من تصريحات أولئك المسؤولين الغربيين أن الاتجاه الديني المتشدد قد انحسر فالمؤشرات الموضوعية تدل على العكس من ذلك. إن عدم بروز الاتجاهات الدينية المتشددة في تحركات «الربيع العربي» لا يعني إطلاقاً أن هذه الاتجاهات في طور انحسار، فهي كامنة في العمق وستظهر في الوقت المناسب وهؤلاء المراقبون الغربيون ربما كانوا يفكرون في «مواسم انتخابية» معينة كُلّفوا بإعدادها والاستعداد لها.إن الولايات المتحدة قد أعلنت أنها تحاور تنظيماً دينياً بعينه في القاهرة، كما أن المفاوضات الغربية غير المباشرة مع عناصر من «طالبان» جارية على قدم وساق... وعندما تدمر ثورة ما نظاماً حاكماً وجهازه الأمني، فإن ذلك يعني تحريراً للقوى التي يحاربها ذلك النظام وجهازه، وهذا لا يخلي الأنظمة الفاسدة من المسؤولية، فهي مسؤولة عن انهيارها وفسادها، لكن هذه ملاحظة موضوعية بشأن انحسار أو عدم انحسار القوى المتطرفة. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بحقيقة موقف الغرب مما يجري في العالم العربي. إن النظم القديمة المتهاوية ضعيفة أمام الغرب وإسرائيل، ولكن الغرب وإسرائيل يريدان أنظمة عربية أضعف، وقد قيل بابتهاج، في الإعلام الغربي والإسرائيلي، إن المتظاهرين لم يهتفوا ضد الغرب وإسرائيل، بل ضد حكامهم الفاسدين، ومن أجل متطلبات معيشية، وذلك يدل على أنهم غير معنيين بالموقف من إسرائيل ودعم الغرب اللامحدود لها.إن الغرب معنيٌّ بمصالحه قبل كل شيء، فلا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمون، بل مصالح دائمة. وإذا ما أثبتت الأنظمة الجديدة أنها متعاونة مع الغرب- وثمة مؤشرات عدة على ذلك- فتلك هي النتيجة المتوخاة غربياً. وإلا، فإن الثورات- حسب المنطق الغربي- التي جاءت بتلك الأنظمة، ثورات منحرفة فاشلة كما سيخبرنا الإعلام الغربي، بعد قليل!تلك هي ملاحظات ثلاث من الوضع العربي الراهن: التوجه نحو «الحوار» فليس المطلوب انتصار طرف على آخر، والنظرة الخاطئة أو الملتبسة بشأن الموقف الغربي من القوى المتطرفة ومدى تشجيع الغرب لها، ثم لماذا هذا «الموقف الغربي» غير المنتظر مما يجري في العالم العربي»... وتلك محاولة لرؤية الحقائق- موضوعياً- قدر الإمكان قبل أي شيء.* مفكر من البحرين