إن منظر الدكتاتور، أي دكتاتور كان، مبارك كان أم غير ذلك، من أي ملة كان، مسلماً أم شيوعياً، أم مسيحياً أم غير ذلك، ليس منظراً للشماتة

Ad

ولا ينبغي له أن يكون كذلك، بل مدعاة للتأمل في القادم من الأمور وطرح أسئلة مشروعة عن نهاية وأفول حقبة الدكتاتوريات المطلقة، وهي أسئلة مستحقة في زمن التحولات الكبرى التي مازالت لما تؤتِ ثمارها بعد، ولما تؤثرعلى الحالة الدولية غير المستقرة والمستلبة من قبل قوى عالمية متوحشة، فعسى أن تكون بداية الطريق في نهاية الدكتاتوريات المطلقة قد بدأت من حيث لم يحتسب أحد، العالم العربي، والذي أطلق عليه حتى وقت قريب صفة الربع الخالي من الديمقراطية.

فقد استقرت مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان على مفهوم أساسي لتحقيق العدالة أيا كانت، وهو عدم التهاون مع منطق الإفلات من العقاب.

هناك بالتأكيد جملة من الاشتراطات لكي تكون محاكمة المسؤولين السابقين مقبولة ومتسقة مع القواعد الحاكمة للقانونين المحلي والدولي، أهمها أن تبتعد عن كونها شكلاً وموضوعاً مجرد تحقيق لرغبة أركان النظام الجديد، أو ما يسمى بعدالة المنتصر وهي الإشكالية الرئيسية التي واجهت مصداقية محاكمات نورمبرغ وطوكيو، والتي عقدها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ضد القيادات العسكرية للمهزومين الألمان واليابانيين، وظلت هذه الصفة والتهمة لصيقة بتلك المحاكمات حتى كادت تسقط من اعتبار تطور القانون الجنائي الدولي. ولم تبدأ الحياة تعود لمفهوم محاسبة الجناة في الجرائم الإنسانية إلا بداية التسعينيات حين تبلورت بمحاكم جنائية خاصة للبوسنة ولرواندا وغيرهما، كما تطورت التشريعات في عدد من الدول لكي تسمح بمحاكمة الجناة ضد الإنسانية على أراضيها، وكانت بلجيكا رائدة بهذا الصدد، كما تطورت مفاهيم إبداعية، للتعامل مع الإفلات من العقاب كلجان الحقيقة والمصالحة وبالذات في جنوب إفريقيا ومن ثم رواندا، حتى تكلل ذلك الطريق الطويل بإنجاز اتفاقية روما 1998 التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، والتي بدأت العمل فعلاً في فبراير 2002، إلا أن الطريق مازال طويلاً.

في شهر يوليو من 2003، أي بعد الاحتلال الأميركي للعراق، طلبت الأمم المتحدة ممثلة بالصديق سيرجيو دي ميللو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، والذي تم اغتياله في أغسطس 2003، ابداء رؤيتنا حول كيفية التعامل في محاسبة أركان نظام صدام حسين. كنا خمسة خبراء دوليين، حضرنا إلى بغداد، وقمنا بجمع المعلومات الكافية حول الحالة القانونية التي كان يمر بها العراق، الذي كان حينها محتلاً دون أدنى اعتبار لمبادئ القانون الدولي الإنساني وبالذات اتفاقية جنيف الرابعة، وفي ذات الوقت عدم جاهزية الجهاز القانوني العراقي للتصدي لمثل ذلك النوع من المحاكمات. لم يكن صدام حسين قد ألقي القبض عليه بعد، وكذلك العديد من أركان نظامه، وهكذا كان السؤال شبه افتراضي. على أية حال، كان رأينا كخبراء دوليين بعدم إمكانية إقامة محاكمة عراقية، وبالتالي لابد أن تكون دولية لضمان حيدتها ومصداقيتها، إلا أن «سلطة التحالف المؤقتة» بالإضافة إلى الحضور من العراقيين رفضوا ذلك، واقترحنا حلولاً وسطاً كمحكمة مشتركة «دولية ـ عراقية» أو محكمة عراقية بوجود استشاري دولي، إلا أنها كلها تم رفضها، وانتهى الأمر بعد القبض على صدام إلى ما انتهى إليه، من محاكمة جسدت مفهوم عدالة المنتصر. وأضاع الأميركان والعراقيون حينذاك فرصة تاريخية لمحاكمة مجرم كصدام محاكمة لا تحوم حول مصداقيتها أية شائبة.

في هذا السياق جاءت المحاكمة التاريخية للرئيس المصري السابق حسني مبارك في الثالث من أغسطس، والتي جاءت في ظروف تختلف جملة وتفصيلاً عن تسلسل الأحداث في العراق. فالتغيير في النظام المصري أو بعض أركانه لم يأت من خلال تدخل أجنبي أو انقلاب عسكري، على طريقة ما حدث عام 1963 في العراق حيث قيل إن محاكمة سريعة من قبل البعثيين لعبدالكريم قاسم، ربما دقائق معدودات ومن ثم تم الإجهاز عليه وعرض صورته بالتلفزيون. التغيير في مصر جاء عن طريق حراك شعبي سلمي أدى إلى اقتناع الجيش بالتفاعل معه ومن ثم إقالة الرئيس مبارك.

هناك ضرورات قانونية وإنسانية وأخلاقية تستلزم عدم إفلات أركان النظام السابق من العقاب، والتي ظل الثوار يشككون في حدوثها حتى قبل يومين وإمكانية مثوله أمام المحكمة، ولكنه وقد مثل الآن ومجموعة من أركان نظامه بما في ذلك ابناه علاء وجمال، فإن مصر تسير على الطريق الصحيح، شريطة أن تستمر المحكمة في مسارها العادل والنزيه وأن تحكم بموجب ما يتوافر لها من حقائق، وأن تحكم بالعدل بالإدانة كانت أم غير ذلك، كما على المحكمة أن تنتبه لإلغاء الإجراءات المعوقة لحضور بعض المعنيين بالأمر كمحامين وغيرهم.

إن محاكمة الدكتاتور، أي دكتاتور كان، مبارك أم غير مبارك، هي خطوة في الطريق الصحيح، وهي تحقق شيئاً من بصيص أمل للمهمشين والمسحوقين في العالم، شريطة أن تلتزم تلك المحاكمة باشتراطات العدالة والنزاهة إلا أنها ليست إلا خطوة في طريق طويل لكي يصبح العالم أكثر عدلاً واستقامة واستقراراً، عالم لا يفلت فيه من العقاب كبار الجناة والمجرمين وبالذات الذين أجرموا بحق الإنسانية. عسى أن تكون هذه بداية لعالم لا يفلت فيه المجرمون من العقاب، المدخل المنطقي لاستقرار وإنسانية البشر أياً كانوا.