كتب الزميل زاهر الغافري في مقالته تأملات عن الرائحة والذاكرة التي تنبش فيها، واستعان بكتابة من "بروست" يقول فيها:" إن رائحة الأشياء وطعمها يظلان في الجو زمنا طويلا كالأرواح جاهزة لتذكيرنا منتظرة اللحظة المناسبة".
هذه الرائحة الآتية من حاسة الشم أظن أنها أقوى الحواس الإنسانية وأكثرها رهافة وإحساسا، فهي الآتية من عمق شبكة الحواس العصبية والحسية، فاردة قوتها وباسطة طغيانها على الكيان كله. لا شيء قادر على منح اللذة ووهج المتعة والإتيان بالسعادة قدرها، وبذات الوقت لا يوجد شيء معذب ومثير للوجد والشجن والفقد والألم بقدر تعذيبها. بروست مر فيها وعاكسته وأثارت شجنه وهي تغافله وتستعصي عليه وتختبئ في مغاليقها، تراوده وتبخل في المجيء، وهو يشعر بها أقرب من حبل الوريد وعلى طرف لسانه، يتذكر مذاق رائحتها ويحاول أن يقبض على إحساسه الغامض المبثوث فيها ولا يصل إليه، كان هذا الفصل الذي يتذكر فيه طعم الحلو وهو يشرب كوب الشاي عند عمته من أروع ما كتبه في الزمن المفقود. الرائحة هي المحرك والدينامو لذاكرة الكتابة والفن بشكل عام، لها سطوة عجيبة ومقدرة رهيبة على تحريض الذاكرة وجلدها بقسوة التذكر الذي يقود إلى الغياب الكامل للفنان، كأنه الفناء الذي يسحب طاقة الجسد كلها خلف خيط منسرب في ضباب ذاكرة اختلطت فيها روائح الأمكنة والذكريات كلها حتى امتزجت وذابت في نسيج يحاول الفنان أن يسحب خيطا منه لا يدري أين مكمنه. لحظة الانسحاب هذه والتوهان في ضبابية الإحساس وكنهه، هل هو طعم أو رائحة أم هو شيء أقوى من الطعم ومن الرائحة؟ شيء رائع عظيم ومعذب في الآن ذاته، الجري خلفه في محاولة صيده وتذكره هو اللحظة التي يغيب فيها الجسد تمام الغياب، ويعبر في النسيان من دون أن يشعر أنه قد غاب عن الإحساس الواعي بجسده، وأنه قد انفصل تماما عن جسده. هذه اللحظة من أمتع اللحظات التي تمر بالكاتب والفنان والمبدع في أي حقل كان، وبذات الوقت هي لحظة مستعجلة تمرق مثل البرق، ومضة لا تروي الظمأ لكنها عظيمة وثرية ورهيبة في تجليها الساطع الهارب على عجل. عند الإفاقة من الغياب تكون هناك كتابة أتت من وميض النسيان، النسيان الذي عبر الجسد وتخطاه في ومضة مذهلة. هذه الحالة ليست بسيطة أو سهلة أبدا، لأنها غامضة تداهم على غفلة وتقتحم، من أين تأتي، ولماذا تأتي، وما هو المحرض على مجيئها؟ كلها أسئلة لا تجد لدي أي إجابة، وهي أيضا حالة شعورية نادرة الحدوث بالنسبة لي على الأقل، فأنا لا أدري أسباب حدوثها، فهل هو مثلا الاستغراق الكامل في الكتابة؟ أو هو نشاط ذهني ينبش في ماضيه وينتقي شيئا مقذوفا على غفلة منه مثل فقاعة اندفعت على سطح الذاكرة؟ أو هو تضارب في سلوك كهرباء الرأس عند شدة التماع الإبداع الفني والأدبي؟ أتذكر في إحدى المرات كنت جالسة أكتب في رواية حجر على حجر، وخلال انهماكي في الكتابة رأيت لمعان ذرات بودرة ذهبية طارت أمام بصري بالضبط،، تابعتها حتى غابت، وكانت هذه اللحظات هي غياب تام لجسدي الذي لم أعد أشعر به، نسيت وجوده تماما، كنت خارجة عنه كأنه لا يعنيني، وتركته وحده على الكرسي وكأنه ليس لي وأنا في تحليقي خلف لمعان الذهب المارق. بعدها حل صمت غريب حين اختفى الوميض وتلاشى الغياب وانتابني شعور لا يمكن تحديده أو فهمه أو وصفه، كنت اثنين، جسدا جالسا على الكرسي وأناي المسحوبة خلف وميض ذرات الذهب. هذا الشعور بالغياب وبالنسيان وبالانقطاع عن الحاضر له ارتباط يثيره ويحرضه على الإتيان، هذا المحرض هو الرائحة والانجراف بشدة خلفها لتذكرها وللإيقاع بها يدفع بالكتلة الشعورية كلها للغياب فيها، وهذا الغياب هو محو ونسيان لواقع يأتي الإبداع في أثره. الكتابة التي أتت من هذا الغياب كانت من أجمل ما كتبته بحيث جعلتني أتمنى أن يتكرر هذا المحو والنسيان الذي يبدو أن له شروطاً خفية لحدوثه لا يدركها المبدع، بل إن شدة تكرار حدوثها قد يحرق المخ أو يغيب صاحبه، عندما تشتد كهرباء رأسه. وبالرغم من ذلك هو نسيان رائع حدوثه.
توابل
عندما يغيب الجسد
09-01-2012