حملة القمع مستمرة، والقتلى والجرحى يتساقطون يومياً، والنظام السوري يتحدى العالم، في أول تحرك دولي أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 122 دولة حملة القمع التي تشنها الحكومة السورية ضد المحتجين، ونددت لجنة حقوق الإنسان بشدة باستمرار الانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان من جانب السلطات السورية، مثل: الإعدامات التعسفية والاستخدام المفرط للقوة، واضطهاد المدنيين والمدافعين عن حقوق الإنسان وقتلهم، والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، وإساءة معاملة المعتقلين بمن فيهم الأطفال، وطالبت بنهاية فورية لمثل هذه الانتهاكات وتطبيق الخطة العربية فوراً.
هذا القرار الأممي المؤيد بأغلبية ساحقة لم تعترض عليه إلا 13 دولة، وهو يشكل رسالة تحذيرية قوية لسورية، ولكن النظام السوري كعادته في اتهام الجميع إلا نفسه قال عبر مندوبه، إن القرار هو«إعلان حرب» سياسية وإعلامية ودبلوماسية ضد سورية، وهو تآمر يذكره بمعاهده سايكس بيكو!النظام اليوم يعيش حالة عزلة خانقة لكنه لا يكف عن المناورة بهدف الإفلات من وطأة العقوبات المفروضة والتي ستتصاعد عربياً ودولياً، كثيرون رأوا في القرار الأممي ما يمهد لقرار جديد من مجلس الأمن للتدخل الدولي لحماية المدنيين، وهو الأمر الذي لا يحبذه كثير من العرب الذين يفضلون حلاً في نطاق البيت العربي، لذلك سارعت الجامعة إلى أخذ زمام المبادرة بتعليق عضوية سورية، وتهديدها بالعقوبات، ولكن هل يستطيع العرب وبدون العون الدولي معالجة الأزمة السورية؟أخشى أن يكون «الحل العربي» هو «الحلم العربي» كما قالت الكاتبة البحرينية سوسن الشاعر، وكل التجارب العربية عبر نصف قرن لم تنجح في حل أي قضية عربية!يتفهم المرء دوافع ومنطلقات الجامعة وسعيها الحثيث إلى إيجاد مخرج عربي للحيلولة دون نقل الملف السوري للتدويل، كما يقدر تصريح الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس مجلس الوزراء القطري ورئيس اللجنة الوزارية المعنية بحل الأزمة من أن الجامعة حريصة على حل الأزمة عربياً، وعدم تدويلها، كما يتفهم تصريح د. غليون رئيس المجلس الوطني السوري بأنه لا يريد تدخلاً خارجياً لكنه يرى استقالة الأسد لإفساح المجال للحوار.أقول مع تفهمي وتقديري لهذه التصريحات فإن التساؤلات المطروحة: لماذا هواجس ومخاوف التدخل الدولي؟ وما العمل في ظل عجز الشعب واستمرار آلة القتل والذبح؟ وما الحل إذا فشل «الحل العربي» ولم يرتدع النظام؟ في تصوري أن «هواجس التدويل» متفرعة من «أوهام التآمر»، وهي أوهام مبثوثة في مجمل المنظومة المجتمعية العربية، في مناهج تعليمية وفي منابر دينية وإعلامية، وفي نظم سياسية، كلها مبنية على فكرة الآخر الخارجي المتآمر الذي لا يأتي منه خير أبداً، وهو إن أتى لمساعدتنا وتظاهر بحماية حقوق الإنسان فإنه يأتي لأهداف ومطامع وأجندة خفية.هذه الأوهام راسخة في بنية المجتمعات العربية بفعل طروحات فكرين: الفكر القومي بنسختيه التآمري والبعثي، وفكر الإسلام السياسي، اللذان هيمنا على الساحة الإعلامية والمنابر التعليمية وعمقا في النفسية الجمعية العربية كراهية الآخر الخارجي والارتياب فيه، لكنهما أفرزا نظماً تسلطية وكراهيات عميقة وأوضاعاً مزرية دفعت جماهير الربيع العربي للقيام بثوراتها الحالية عليها.قد تكون مخاوف التدخل الدولي مبررة في عصر مضى كانت «السيادة الوطنية» فيه حصناً منيعاً يتيح للنظام المستبد الذرائع الوطنية والقومية للفتك بشعبه، وهو آمن تجاه أي تدخل من المجتمع الدولي، لكننا اليوم في عالم مختلف، سقطت فيه الحواجز والحصون المنيعة، وتقاربت فيه الشعوب وتفاعلت بفعل ثورة المعلومات والاتصالات والمد العولمي الذي اجتاح الحدود والسدود المصطنعة والمفرقة للبشر، فأصبح عالم اليوم متداخلاً، يتهم بعضه بعضا ويتأثر بعضه ببعض، فالقضايا الداخلية لها تأثيراتها الخارجية، والقضايا الخارجية لها انعكاساتها الداخلية.عالم اليوم أصبح متحداً بشكل أقوى من قبل، ينسق ويتعاون جماعياً في مختلف المجالات: حماية البيئة ومكافحة الإرهاب والمخدرات والاتجار بالبشر، والتنمية وحفظ السلام وحقوق الإنسان، لقد انتهى زمن النظام الذي يحبس شعبه خلف أسوار «السيادة الوطنية» ليذيقهم سوء العذاب من غير أن يتدخل المجتمع الدولي للأخذ على يديه.لا أحد في عالم اليوم يأبه لتهديدات نظام مستبد بأنه سيحرق المنطقة إذا تدخلوا في شؤونه، فهذه الأنظمة وعقلياتها آن لها أن تذهب في غياهب التاريخ، لذلك لا مبرر ولا مسوغ للتخوف من التدخل الدولي لحماية شعب يتعرض للقتل والذبح يومياً، ويجب عدم الخلط كما يقول عبدالرحمن الراشد بين التدخل الدولي المحكوم بمرجعية مجلس الأمن والتدخل الخارجي غير المرتبط بتلك المرجعية، فالتدخل الأول مقيد بتفويض شرعي محدود المدة والهدف، فلا مبرر للتخويفات بخلاف الثاني، لكن النظام السوري الذي يهدد العالم بعدم التدخل هو نفسه الذي يجلب التدخل باستعانته بحلفائه الخارجيين لنصرته. الشعب السوري اليوم، يستنجد ويستغيث بنا طلباً للحماية وتلك مسؤوليتنا بالدرجة الأولى، ونحن آثمون بتقاعسنا ومسؤولون أمام الله تعالى وأمام رسوله عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا»، ويقول الرسول «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وقالوا يا رسول الله، ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذوا على يديه»، فإذا كان العرب عاجزين عن توفير الحماية لهم فالواجب أن يطلبوا الحماية من المجتمع الدولي عبر مجلس الأمن مع ممارسة الضغوط على الصين وروسيا لضمان عدم اعتراضهما. لقد أصبح «العامل الدولي» هو اللاعب الرئيس في ثورة الربيع العربي، ولولا التدخل الدولي لما نجحت ثورة الشعب الليبي ضد نظامه القمعي، لقد آن أن نراجع ونعيد النظر في بعض أدبيات الفكر القومي واليساري والإسلام السياسي الذي تحكمه هواجس التآمر وتتحكم به عُقد الارتياب من الآخر المتفوق، فالعرب لم يجنوا من الأيديولوجيات القومية المنغلقة عبر نصف قرن إلا الهزائم المنكرة والكوارث الوطنية وسلسلة من الأكاذيب والأوهام، ولو تركنا العالم لشأننا، فإن بأسنا بيننا شديد، ولاستمر طغاة العرب يمارسون فينا نوازعهم القمعية المكبوته منذ الطفولة البائسة عبر التصفيات الجسدية وزوار الفجر الذين يأخذون الضحية إلى ما وراء الشمس!يقول محمد قحطان، رئيس الدائرة السياسية في التجمع اليمني للإصلاح «الغرب له الدور الأكبر في حماية الشعوب العربية من تسلط أبناء جلدتها» وهذا صحيح، هل كان العرب قادرين على إخراج سورية من لبنان بغير الضغط الدولي؟ وهل كانوا قادرين على تشكيل لجنة تحقيق في مقتل الشهيد الحريري ورفاقه؟ وهل كان معارضو القذافي في الشتات بمنأى عن زبانيته؟ لو ترك العالم لبنان لاستبداد حزب الله بالأمر وحده، ولو لم يواجه المجتمع الدولي الوباء الإرهابي لعجز العرب– وحدهم– عن مواجهته، من ضمن للخليج هذا الاستقرار والرخاء والأمن؟ ومن كبح جماح نظام الملالي وتغوله على أهل الخليج؟ أليس هو الوجود الدولي؟ هل كان ممكناً نجدة العراقيين وتخليصهم من نظام صدام بغير التدخل الدولي؟ ومن حرر الكويت من الغزو الهمجي؟ ومن أنقذ المسلمين في البوسنه من الإبادة؟ ومن الراعي الضامن لعدم تفاقم المسألة الصحراوية «35 سنة» بين الشقيقتين «الجزائر والمغرب»؟ وهل كنا سننصف نساءنا ونمنحهن حقوقهن بغير الضغط الدولي؟ وهل كنا نحسن ظروف العمالة ونمنع التجارة بالبشر من غير الضغط الدولي؟ ومشكلة الجنوب السوداني: هل كان ممكناً معالجتها من غير التدخل الدولي؟ وليبيا هل كان بالإمكان تحريرها من أبشع نظام قمعي بغير التدخل؟ قالها الرجل الشجاع الأمير طلال «أهلاً بالضغط الدولي إذا كان لمصلحة الدول العربية».* كاتب قطري
مقالات
التدخل الدولي... لماذا نخشاه؟!
28-11-2011