الطرب المفقود
الكثير من قراء الشعر، في الوسط الثقافي هذه الأيام، يفتقد لحاسة الطرب، التي يثيرها النص الشعري كما يفتقد المستمع إليها حين يصغي إلى الأغنية. وكما يفتقد مشاهد اللوحة إلى الإحساس بمتعة الجميل والجمال. قد نرى هذه الحاسة دنيا أو أولية، إلا أنها ضرورة حاسمة تُبنى عليها مراحل التذوق التالية. التعامل مع المفاهيم الحداثية العربية (أو ما بعدها!) تتم في سياق نظري، أي في سياق ذهني. حتى كلمة «اللذة»، التي ترد في رطانات الحديث الحداثي، سرعان ما تكتشف أنها وليدة اجتهاد ذهني. هذا الأمر هو الذي جعلني أقتنع مع الأيام بأن معظم ممارسي النقد الشعري لدينا لا يملكون حاسة الطرب هذه. لأنهم انفردوا، أولاً، مع النصوص ذات الطبيعة الذهنية زمناً، ثم أسرهم دورهم الريادي، ثانياً، بحمّى الغرق المُعتد بالنفس في التنظير الذي لا شواطئ له، معززين لغتهم وعقولهم بمزيد من «الصياغات المترجمة» لتيارات «البنيوية» و»التفكيكية»، التي أماتت المؤلف، ونفت النص عن الإنسان، وجعلت الكلمة لا متناهية الدلالة. والقارئَ أعمى بعكاز، وبلا دليل.
إن مدخلاً كهذا لا بد سيكون مدخلاً سحرياً! واحدة من أخطر نتائج هذا الخوض الذهني، المجاني، تكمن في أنهم صاروا يفتقدون لأبسط معايير التمييز بين النص الشعري الرديء والآخر الجيد. صار واحدهم ينصرف، بفعل مصالح السوق الثقافي، إلى كتّاب لا قيمة لهم، ونصوص لا قيمة لها، على اختلاف المعايير الذوقية. تجد ذلك في أكثر المقالات والكتب النقدية شيوعاً اليوم. المستوى الآخر من الذائقة، هو الذائقة «النقدية»، التي تعزز الجانب المعرفي الضروري لدى القارئ والناقد، لكي يتذوقا النص الشعري بصورة حقيقية. أقول الجانب المعرفي الذي لا يقتصر على «اللذة» النظرية. وأرجو أن يوضع هذا في الاعتبار الأول. نقاد ما بعد الحداثة العربية يخلطون عن دراية مُخاتلة، للأسف، بين الجانب المعرفي النظري المجرد، وبين الجانب المعرفي الحسي الذي تتطلبه الفنون. ما قيمة كل المعادلات الذهنية في كتب النقد النظرية إذا كانت حواس الناقد عاجزة عن الاستجابة التي تفيض فيها حرارة الجسد البشري، والدم البشري؟ ما قيمة تلك المعادلات الذهنية أمام منحوتة لم تكتمل لمايكل أنجلو، حيث الجسد الأسير يناضل أن يفلت من شباك الحجارة؟ أو أمام قصيدة للسياب، لا يملك البطل فيها أن يفلت من جاذبية الموت؟ قارئ أو ناقد الشعر، اللذان يفتقدان لهذا النوع من الثقافة النظرية، والحسية، والروحية، يفضلان بالتأكيد أن يلوذا بحرم النظريات البنيوية والتفكيكية (العربية!). إنهما، معها، يفلتان من أسار البحث عن الدلالات، والتقاط الخفي بمجسات الكيان الحار الحي. كنا نضيق بالنقاد الأكاديميين القدامى بتهمة انعدام الروح. النقاد الأكاديميون اليوم، أبناء صنعة قد تحسن، على الأقل، معرفة بحور الشعر مثلاً، ولكنها تفتقد إلى معرفة الفارق بينها كضوابط إيقاع، وبينها كلحن موسيقي. تعرف معنى لا نهائية الدلالة، ولكنها لا تعرف لأي هدف، ولأية غاية! قراءة الشعر تفترض إحساساً مرهفاً بالموسيقى، حتى لو كان النص قصيدة نثر. وقراءة الشعر تفترض احتضاناً لموروث الشعر العربي، حتى لو كان القارئ متطرفاً في حداثيته. وتفترض مخيلة طليقة، حتى لو كان القارئ أو الناقد مُثقلاً بالمعرفة النظرية. وإذا كان إتقان بحور الشعر لا يكفي لتوفير حساسية موسيقية، فكيف إذا انعدم الإتقان والحساسية معاً؟ وكذلك مع الموروث، والمعرفة النظرية. كان مستمع الشعر يستجيب بالصوت المُحتفي، ثم بتحريك الرأس مع التزام الصمت، ثم بالصمت المتأمل. وفي الحالات الثلاث كان الطرب عنصر الاستجابة الحاسم. ومع شيوع ظاهرة «المهرجان»، الذي حل محل «الكتاب» كمعيار، صارت استجابة المستمع تهريجاً أو تثاؤباً.