الأزهر وشرعية الدولة المدنية
الربيع العربي طالت فصوله وامتدت إلى الصيف، ولم نر حتى الآن أزاهيره وثماره، فما زالت الفوضى تضرب بأطنابها في مصر فتعطل كل المرافق والخدمات والإنتاج، إذ عادت الاعتصامات إلى ميدان التحرير الشهير في القاهرة بهدف الضغط على المجلس الحاكم والحكومة؛ لتحقيق أهداف الثورة، وأدت إلى اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة، سقط فيها المئات من الجرحى من الجانبين. هناك من يهون من الأمر ويبرره بأنه الأعراض الجانبية للربيع العربي، وهناك من يقول إنها آلام المرحلة الانتقالية، وهناك من يتساءل مستنكراً: من قال إن الثورات تحقق أهدافها بعد قيامها مباشرة؟! ويضيف: إن الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة هو من أصعب المراحل التي تمر بها الأمم!
قطاع كبير من الشعب المصري متوجس من هيمنة التيار الإسلامي على الحكم إذا أجريت الانتخابات في موعدها في سبتمبر القادم فيطالبون بتأجيلها، وقد استجاب المجلس الحاكم أخيراً وقرر تأجيل الانتخابات شهرين. فالمصريون اليوم منقسمون بين فريقين: التيار الليبرالي الذي يرفع شعار «الدستور أولاً»، والتيار الإسلامي المتمسك بـ»الانتخابات أولاً»، وحتى التيار الإسلامي منقسم بين التوجه السلفي الذي يعادي الليبرالية والديمقراطية ويراهما بدعة وضلالة، وتوجه الإسلام السياسي الذي يمثله الإخوان، والذي أعلن قبوله بالديمقراطية والتعددية والدولة المدنية، إلا أن تجارب إخوانه من الإسلاميين في الحكم في عدد من الدول الإسلامية غير مطمئنة حتى الآن. فمن وسط هذه الانقسامات السياسية ومن خضم هذه الاختلافات الدينية تأتي وثيقة الأزهر الجديدة لترسم رؤيتها الشرعية الوسطية في مستقبل مصر في دولة وطنية ديمقراطية حديثة ذات مرجعية إسلامية، وهي رؤية شرعية وسطية تختلف عن الرؤية السلفية المغلقة، وأيضاً تتمايز إلى حد ما عن الرؤية الإخوانية المتوجسة، وجدت الوثيقة ترحيباً عاماً من قبل قطاعات كبيرة في المجتمع سواءً بين الأزهريين أو المسيحيين كما رحبت بها جماعة الإخوان واعتبرتها إعلاناً واضحاً لموقف المؤسسة العلمية الأعرق والأعلى مكانة في العالم الإسلامي، كما أيدت الجماعة الإسلامية والتيار السلفي ما جاء في بنود الوثيقة، واعتبروها مبادرة تتسم بالنضج، ووصفت الكنيسة المصرية الوثيقة بـ»التاريخية» وأنها تتسم بالحكمة، وتعبر عن وسطية الإسلام الحقيقي. وتأتي أهمية هذه الوثيقة من كونها تحسم الجدل المثار اليوم عقب ثورة 25 يناير حول علاقة الدين بالدولة، ودور الأزهر ومكانته كمنارة هادية يحتكم إليها الشعب المصري في شؤون دينه الإسلامي، وهي أمور أحدثت جدلاً كبيراً في الساحة المصرية بسبب صعود تيارات الإسلام السياسي وتنامي التيار السلفي وممارساته التي أثارت مخاوف المصريين المسيحيين، وكذلك كل الأطياف والجماعات الليبرالية والعلمانية إضافة إلى منظمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان. ساهم في إعداد هذه الوثيقة نخبة من العلماء والسياسيين والمثقفين من أصحاب الفكر الحر من المسلميين والمسيحيين برعاية ومباركة من فضيلة شيخ الأزهر المستنير د. أحمد الطيب الذي يعد امتداداً عقلانياً مشرقاً لأئمة وشيوخ الأزهر الكبار، وفي الحقيقية من يقرأ الوثيقة يتذكر رائد الإصلاح الأشهر في العصر الحديث الإمام محمد عبده في كتابه المشهور «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» عندما تكلم عن الأصل الخامس في الإسلام بعنوان «قلب السلطة الدينية». إذ قال ((لم يدع الإسلام بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة وإيمان أحد، على أن الرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً لا مهيمناً ولا مسيطراً قال الله تعالى «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر إلا حق النصيحة والإرشاد... ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون التوسيط أحد من سلف ولا خلف، فليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بأي وجه من الوجوه)). الوثيقة تركز على مدنية الدولة ونفي السلطة الدينية ورفض وصايتها على المجتمع، وتؤكد حق المواطنين في إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم؛ لأن الإسلام ترك هذا الحق لهم شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة المصدر الأساسي للتشريع مع ضمان حق المسيحيين في الاحتكام إلى شرائعهم في الأحوال الشخصية. وقد تضمنت الوثيقة أموراً بالغة الأهمية، من أبرزها: 1- اعتبار «المواطنة» أساس المسؤولية في المجتمع. 2- تأكيد مبدأ التعددية السياسية والدينية. 3- رفض التوظيف النفعي للدين عبر استخدام الدين لبث الفرقة والعداء بين المواطنين. 4- اجتناب «التكفير والتخوين» وهما عملتان زائفتان رائجتان لدى بعض المنابر الدينية والسياسية في تشويه وتجريح الخصوم السياسيين والمثقفين الليبراليين بهدف التكسب الشعبي الرخيص. 5- اعتماد ثقافة الحوار وقبول الآخر والاحترام المتبادل بين فئات المجتمع. 6- ضمان الحرية الدينية والممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية وبدون أي معوقات وحماية دور العبادة. 7- احترام حرية الرأي الديني: وإذ تؤكد الوثيقة أن الأزهر هو الجهة المختصة في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة إلا أنها تؤكد حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة. 8- استقلالية الأزهر: أيدت الوثيقة مشروع استقلال الأزهر وعودة هيئة كبار العلماء واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر. 9- تطوير مناهج التعليم الأزهري ليسترد دوره الفكري الأصيل.10- التأكيد على أن «المبادئ الكلية للشريعة والمقصود بها «الثوابت» الدينية التي لا خلاف عليها، هي المصدر الرئيس للتشريع وليست الاجتهادات الفقهية المختلفة ولا المذاهب الفقهية المعتمدة. مجي الوثيقة الأزهرية في هذا الوقت وقبل عدة أسابيع من صدور «وثيقة إعلان المبادئ الأساسية للدولة المصرية الحديثة» التي أصدرها المجلس العسكري الحاكم أخيراً، يعد عملاً ذكياً من الأزهر الشريف، فإذا كانت الوثيقة الأزهرية تحدد «المبادئ الحاكمة» في الشأن الديني فإن «وثيقة المبادئ الدستورية» ترسم «المبادئ الحاكمة» في الشأن السياسي، وهذه الوثيقة التي استغرق إعدادها قرابة الشهرين، والتي يشبهها البعض بوثيقة الإعلان الأميركي للحقوق جاءت مؤكدة مضامين وثيقة الأزهر في اعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع. وثيقة إعلان المبادئ الأساسية جاءت في هذا الوقت كحل توفيقي للخروج من مأزق الانقسام السياسي حول «الدستور أو الانتخابات أولاً» لأنها تؤسس لمبادئ حاكمة لاختيار الجمعية التأسيسية لإعداد دستور جديد للبلاد، وإصدارها في إعلان دستوري بعد اتفاق القوى والأحزاب السياسية عليها، وبذلك تجنب البلاد مغبة الانقسام السياسي حول أولوية الدستور أو الانتخابات، والذي يذكرنا بحكاية «البيضة أوالدجاجة أولاً»؛ لأن الوثيقة تضمنت مبادئ حاكمة تطمئن أصحاب الدستور أولاً، من خلال وضع الحد الأدنى للضمانات الدستورية، وهي 12 مبدأ أساسياً يتقيد بها الدستور القادم لمصر. وفكرة المبادئ الحاكمة للدستور مطبقة في 33 دستوراً حول العالم وهي تعد من المبادئ فوق الدستورية، والتي لا يستطيع حزب سياسي غالب أن يتنصل منها، والآمال كبيرة في أن يكون لصدور المبادئ الحاكمة للدستور وفي تأجيل الانتخابات شهرين الحل التوفيقي للخروج من المأزق السياسي للمجتمع المصري.* كاتب قطري