يمكن النظر إلى تجربة الشاعر جليل حيدر من زوايا عديدة، أولاً لأنها تجربة متنوعة وثرية عبر محطات ومنعطفات حياتية منذ الستينيات من القرن الماضي وصولاً إلى البرهة الراهنة، غير أنني سأشير إلى مفصلين أظنهما يندرجان في عمق التجربة الشعرية عند الصديق جليل حيدر، أولهما القدرة التجريبية العالية في القصيدة، للإمساك باللحظة الجمالية وتصعيدها شعرياً مع ما يتبعها من حالة التأمل في حركة العالم والأشياء التي تدور حوله، مستفيداً خصوصاً في أعماله الشعرية المتأخرة، أقول مستفيداً من العناصر الإبداعية السردية في الثقافة سواء كانت هذه العناصر منتظمة في سياقها العربي أو العالمي، وأظن أنها ميزة تُحسب لجليل حيدر، كما أنها في الوقت ذاته ميزة تدخل في صلب التجربة الشعرية الحديثة، هذا بالإضافة إلى أن التجربة السويدية حياة وكتابة أضافت إلى الشاعر نوعاً من الشفافية والرقة الجمالية في التأمل والاقتراب من الطبيعة وحركة الاشياء لكن دون أن تتخلى القصيدة عن قدرتها على المواجهة النقدية بالمعنى العميق للكلمة، أي أن قصيدة جليل حيدر لا تذهب إلى سطح الأشياء، بل إلى عمقها، هذا من ناحية النص الشعري، أما من الناحية الأخرى أو المفصل الآخر فأظنه يندرج في مواقف جليل حيدر الإنسان، وشخصياً عبر علاقتي الصداقية معه منذ سنوات طويلة، عرفتُ في شخص جليل دفاعه النبيل عن أصدقائه من الكتّاب والفنانين والشعراء في وجه أي تعسف يتعرضون له، هذه ميزة المثقف الطليعي أو المثقف النقدي، الحرية لا تمس، هذا هو موقف جليل، الحرية في وجه الطغيان مهما كان ومن أي جهة أتى، والحرية التي أعنيها هنا، هي حرية الموقف كقيمة إنسانية، الموقف الجمالي الصادق والمسؤول.

Ad

يقدم جليل حيدر في قصائده ما يُشبه النشيد الجنائزي إلى بلده العراق انه نشيد احتجاجي ولامع، عبر صور شعرية، تتصاعد مثل الموسيقى وعبر مفردات ولغة تنهض صافية، ملتبسة بغموض شفاف وآسر، عمارة من الخيال الجامح، العنيد وجمالية تستنطق الأمكنة الهاربة والحياة المعجونة بالألم والخيبة، مع مسحة من المفارقات والسخرية السوداء، انها إضاءات تكشف عن مفاسد الواقع وإحباطات أجيال من المثقفين ونهاية الأحلام المغدورة، المدفونة في الروح. قصائد جليل حيدر تكشف عن طزاجة وتألق في المخيلة والمزاج، ومنذ بواكير أعماله الأولى يلمع المزاج المشاكس في قصائده، "قصائد الضد 1974″، "صفير خاص 1977″، "شخص بين الشرفة والطريق”، "حبر لليل، رحيل للمكان”، "السمندل”، "الضد والمكان”، "طائر الشاكو ماكو” حتى آخر أعماله الشعرية المطبوعة، "دائماً لكن هناك” إضافة إلى الترجمات التي قام بها بنقل شعراء سويديين أحبهم إلى العربية، يصف جليل حيدر الشاعر بـ”هذا الكائن المنهك بأحلامه، يُشير الى سبورة الأخطاء، مكتشفاً سهواً آخر، يتعثر به، انه أسلوب في الحياة يفتتن بأسرار الزهرة وبغموض الفجر وبابتسامة تبرق خلف نافذة قطار”. يتحدث الشاعر العراقي فاضل العزاوي عن قصيدة جليل بأن الشاعر يكتب عن العراق "في محاولة للوصول إلى ما هو أبعد من لوعة المشهد، انه يعيد رواية التاريخ لينقيه ويستحضر سحرته لينصب لهم مائدة في حديقة الليل حيث زمرة أشباح تلعب الورق في خرائب الماضي، يفتت الماضي شظية، شظية ليصنع من جلد التمساح بلداً، حيث تحتمي الأحاجي بالرواة والرموز تضيع عليه. ومع ذلك يمكن للذكريات نفسها، وهي كل حياته في بغداد، أن تطلق الأشباح نفسها من بئرها العميقة”.