قديماً قال أحد القادة السياسيين المبرزين في مصر، وأحد كبار رجال القانون وهو المرحوم مكرم باشا عبيد "إن السياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان وإذا اجتمعا لا يتمازجان، والواقع أنهما مختلفان في الطبيعة والوسيلة والغرض، فالعدالة من روح الله والسياسة من صنع الإنسان، والعدالة تزن الأمور بالقسطاس بينما السياسة توازن بين شتى الاعتبارات، والعدالة تطلب حقاً والسياسة تبغي مصلحة، غير أن أخطر ما في السياسة أنها ترى من حسن السياسة أن تخلع على المصلحة رداء الحق". فحياد القاضي وتجرده يستوجب أن يكون بعيداً عن الصراعات السياسية حتى يكون قضاؤه نابعاً من تطبيقه للقانون وحده، ومن وحي ضميره الحي. لذلك كان العمل السياسي أمراً تحظره القوانين على القضاة حماية لاستقلالهم، بل تحظر المادة (27) من قانون تنظيم القضاء رقم (23) لسنة 1990 على القاضي إبداء الرأي السياسي، فإذا كان يمتنع عليه إبداء الرأي السياسي، فكيف يحكم على عمل سياسي هو المرسوم الصادر بحل مجلس الأمة، وهو عمل سياسي وسيادي يباشر فيه رئيس الدولة إحدى صلاحياته التي نص عليها الدستور، عندما يحتدم الخلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، كأداة من أدوات تحقيق التوازن بينهما. لذلك لم يكن الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية بجلسة 5/1/2012 في الطعن المقام من نائب سابق بإلغاء المرسوم السالف الذكر مفاجأة لي، بل كان حكماً متوقعاً، إلا أن البعض الذي أثار هذه القضية أصلاً، وهي أن مرسوم الحل غير دستوري، والذي طالب بسحب مرسوم الحل وإعادة إصداره مجدداً بعد تصحيح ما اعتور هذا المرسوم من عوار شكلي، أثبتنا عدم صحته. وكنت في دراستي لمرسوم الحل التي نشرت على صفحات "الجريدة" يوم الأحد 18/12/2011 والتي انتهيت فيها إلى أن مرسوم الحل صحيح دستوريا قلت إن هذا المرسوم لا يخضع أصلاً لرقابة القضاء إعمالاً للمادة (2) من قانون تنظيم القضاء، التي تنص على أنه "ليس للمحاكم أن تنظر أعمال السيادة"... وهو ما قضى به هذا الحكم. إلا أن الرأي الآخر الذي يرى عدم دستورية مرسوم الحل والذي طالب القضاء ببسط رقابته على مرسوم الحل لإلغائه كان له تعليق على هذا الحكم ارتكز فيه على أمرين: أولهما: ما قرره هذا التعليق من أن مبدأ أعمال السيادة وليد فكرة الدولة المستبدة تاريخياً، نشأ في كنف الدولة التسلطية في القرن الثامن عشر. ثانيهما: أن المحكمة الإدارية بتطبيق هذا المبدأ إنما تبارك مبادئ هذا القرن وأفكاره لتطبقها في القرن الـ21 على حساب الدستور وإرادة الأمة، لأن الفكرة التي قررها قانون تنظيم القضاء لا وجود لها بالدستور الذي هو أسمى من القانون. ولا أحسب أن نشوء نظرية أعمال السيادة لتحصين قرارات الأنظمة الشمولية والاستبدادية وفي كنفها ما يمنع من تناسى أصل نشأة هذه النظرية إذا كان في تطبيقها تعزيز للنظام الديمقراطي القائم على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، والإسلام لم يقطع صلته بالماضي، وأخذ من قواعده وعوائده ما قرره شرعاً. فلم يجد القرآن الكريم في ما تتنزل من آياته غضاضة، في أن يكون يوم الجمعة، هو يوم اجتماع المسلمين، وقد كان هذا اليوم ذاته، يوم اجتماع العرب قبل الإسلام في مجتمع، وصفه الإسلام بالجاهلية، كما لم يجد القرآن حرجاً من أن يفرض الحج إلى مكة، وأن يجعله ركناً من أركان الإسلام الخمسة، وفرضاً من فروضه، وكان الحج إلى مكة إحدى شعائر الجاهلية. وأباح الإسلام تعدد الزوجات الذي عرفته شريعة حمورابي، وأباحته الديانة اليهودية، وبقي إلى القرن السابع عشر، بعلم الكنيسة واعترافها، وكانت عقوبة قطع يد السارق تطبق أيام الجاهلية، قبل أن تنزل به الآية الكريمة. فما الذي يمنع من أن تتحول نظرية أعمال السيادة من نظرية تحمي قرارات الأنظمة الشمولية من رقابة القضاء، إلى نظرية تحمي النظام الديمقراطي وتعززه؟ وجوهر هذا النظام في الأنظمة الديمقراطية كافة هو مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه نظام الحكم في الكويت، طبقا للمادة (50) من الدستور، لتصبح هذه النظرية سنداً للقضاء في عدم بسط رقابته على القرارات ذات الطابع السياسي التي تصدر في العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

Ad

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.