يجمع رشيد عبدالرحمن مادته من حياة معطوبة، كائناته غالباً ما تكون ممزقة من الداخل، مهملة، منسيّة بقوة عنف الواقع. هذه الكائنات تعيش بسطوة الضرورة على الهامش، ويخترق حياتها زمن بالغ الفضاضة والقسوة. شخوص هي نثار ذاكرة ومخيلة متأملة، هكذا يتبدى الفضاء التشكيلي عند الرسام العُماني رشيد عبدالرحمن، فضاء كاشف ومرئي يتجاوز سعة العين، البعد التجريبي يظهر في عمق اللوحة أو في مطارح العمل التجهيزي، متجاوزاً منظور البعد الأكاديمي، ويكاد يقترب من الاشتغال العفوي، المحاط بسلسلة من الدوافع والرغبات، غير أن رشيد عبدالرحمن فنان لا يريد أن يتذكر نفسه، انه يضعك أنت الناظر أو المتلقي أمام عمله ليقول لك، أنت هنا ربما، أو ربما هناك. لقد كنتَ ذات يوم أو على الدوام إنساناً مهملاً، منسياً، وربما كنتَ حجراً أو كرسياً، أو حكاية الطفل الخشبي، أو بقايا شجرة يابسة، أو المرأة المقنعة والمبرقعة بحكم التقاليد وواقع المجتمع، لذلك يحرص رشيد عبدالرحمن أحياناً على انتقاء مواده الخام من الطبيعة، أو من أمكنة وزوايا منسية، بعضها يقوم الفنان بمعالجته بنفسه، غالباً ما تكون مواد خشبية محترقة، أقنعة كبيرة الحجم، براقع نسائية، بقايا أشجار قديمة، الخيش والحبال والأسلاك وأغصان النخل اليابس. إن الموضوعات التعبيرية التي يقترحها الفنان توصلك إلى عوالم ذات أبعاد سرية، بعضها حميم وبعضها نافر، فلوحاته تحمل عناوين مثل «ركن في ظلام البيت»، «الأم والطفل»، «الصداقة»، «النميمة بين الأهالي»، «حب في المطبخ»، «لاعبو الورق»، «نصف جسد»، «الإنسان بين الماضي والحاضر»، «المقطوع من شجرة» إلخ. غالباً ما يطرح رشيد في لوحاته أسئلة ترتطم بعوالم الإنسان الداخلية، بالتيه والضياع، بمشاهد الحلم، برثاء قلب الإنسان في المجتمع المعاصر، هول الزمن ودلالاته العميقة، أسئلة وموضوعات تتخذ أشكالاً رمزية وتجريدية من الواقع الحي للحضارة المعاصرة، لوحاته المنفذة بالألوان الزيتية الهادئة تعطي انطباعاً بصرياً بالثراء والشفافية دون أن يتخلى الفنان من إضافة تفصيل هنا أو هناك على سطح اللوحة، وتسبق اللوحة قوة الخيال والعين المدربة في نزوع إلى الدخول في مغامرة لابتكار فضاءات أسلوبية تستلهم لغة الإشارة والتلميح. في الكتاب الذي وضعه الفنان رشيد عبدالرحمن لبعض أعماله، يشير الناقد العراقي محمد عبدالجبار الناصري إلى «أن مفردات العمل التشكيلي التي يشتغل عليها الفنان رشيد عبدالرحمن تستمد طاقتها من الوجود اليومي لتكون علامات ضمن البنية الخطابية للفنان، والتي تثير متعة البحث عن أماكن أقل ضجيجاً وسط تحولات العالم وصخبه، بينما تأخذ نشوة التأويل نحو الحنين الذي جعله يرسم لذائذ الغياب والاغتراب». منذ سنوات وأنا أتابع أعمال رشيد عبدالرحمن وأحرص دائما على حضور مشاركاته في المعارض، وهو نادراً ما يتحدث عن أعماله، إنه يكتفي بخلق مسافة من الصمت، مسافة هي أشبه بصندوق أحلامه المليء بالضوء والألوان، وكنتُ قد كتبتُ قبل فترة ليست بالبعيدة، نصاً مكتفاً في محاولة للاقتراب من عالمه والنص يبدأ هكذا:
لم تكن فكرة تلك التي رآها في لحظة الغيبوبة، ربما كانت حصاة تلمع فيوادي الأحلام، لذلك يرسم أقنعة غالباً ما تعود الى وجوه أصحابها، يرسمما يشبه متلازمة الحظ العاثر. ذكي بما يكفي ليترك زراً يسقط من سروالهفي المرسم أو فوق أرض الحديقة. يقظ كأنه نمر بنغالي جريح، كأن فيفرشاته وألوانه حصة من الألم والخسارة.لا يريد أن يعرف ماذا يقول، اليدان وحدهما تعملان هكذا، مصادفة خالصة كأن الرّب وضع في أصابع هذا الرجل أيقونة حجرية فوق زجاج مكسور.
توابل
حيوات معطوبة التشكيلي رشيد عبدالرحمن
20-08-2011