تناولت في مقال الأحد الماضي، الأساس الدستوري لحق نقد أحكام القضاء، وقلت إنه يكمن في ثلاثة مبادئ دستورية: أولها علانية الجلسات، وهو مبدأ لم يوضع عبثا، إنما وضع لكي تخضع إجراءات التقاضي وأحكام القضاء لرقابة الرأي العام، وثانيها أن الأمة مصدر السلطات جميعا، فلا يجوز أن تكون سلطة بمنجاة من رقابة الأمة، وثالثها ما تكفله الدساتير من حرية الرأي وحرية التعبير. ولعل من عارضوا هذا الحق قد بنوا رأيهم على ركائز ثلاث تتمثل بمبادئ لا يجوز أن تكون موضع خلاف بيننا سواء كنا مؤيدين أو معارضين لهذا الحق، وهي:

Ad

1 - مبدأ سيادة القانون

2- ومبدأ استقلال القضاء

3- والمبدأ القاضي بأن الأحكام القضائية عنوان الحقيقة.

ولا أعتقد أن أحداً من أصحاب الرأي المؤيد لهذا الحق، وأنا منهم يقبل عدواناً على هذه المبادئ أو إهداراً لها، ولكن ربما كان الفهم الصحيح لهذه المبادئ قد غاب عن أصحاب الرأي المعارض فاستندوا إليها في غير محلها، وأوردوها غير موردها، وهو ما يدعونا إلى عرض هذه المبادئ وغيرها من حقائق دستورية كركائز أساسية يستند إليها الحق في نقد الأحكام القضائية، كما يبين فيما يلي:

أولاً: مبدأ سيادة القانون

بما يعنيه من خضوع الجميع حكاماً ومحكومين للقانون، لا يعصم الأحكام القضائية من الخطأ، والقضاة في إصدار أحكامهم يطبقون القانون ولا يصنعونه، فإذا أخطأوا في فهم القانون أو تفسيره، أو في تطبيقه على ما يطرح عليهم من منازعات وما يعرض عليها من وقائع، فإن نقد هذه الأحكام ولو كانت قد أصبحت نهائية وباتة، لا يتضمن عدواناً على مبدأ سيادة القانون بل انتصافاً لهذا المبدأ وتأكيدأً له، من خلال مطالبة المحاكم في بعض الأحيان بالعدول عما جرت عليه من تفسير أو تطبيق خاطئ للقانون أو مطالبة المشرع في أحيان أخرى بالتدخل لمعالجة القصور أو النقص والغموض في التشريع.

ثانياً: مبدأ استقلال القضاء

بما يعنيه من عدم جواز سلب المحاكم العامة ولايتها، وألا يحاكم الشخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، أي الذي يعينه القانون سلفاً، وألا يخضع القاضي في قضائه لغير سلطان القانون وضميره، وأن يتم تنفيذ أحكام المحاكم وفقاً للإجراءات التي رسمها القانون، فلا يجوز لأي سلطة في الدولة الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء أو وقف تنفيذها، أن هذا المبدأ بهذا المفهوم ليس غاية في ذاته، بل هو الضمان لتحقيق الغايات الأسمى التي أنشئ القضاء وتعزز استقلاله لتحقيقها والذود عنها، وهي العدل والحق والحرية، فهي وحدها مقاصد استقلال القضاء، فلا يجوز أن نسدل الصمت على حكم قضائي لم يحقق هذه المقاصد بل أخطأ في تحقيقها، لأننا لو فعلنا هذا، فإننا نفرغ مبدأ استقلال القضاء من مضمونه الحقيقي ونجعله غاية في ذاته تبتغى ولو على حساب هذه المقاصد، وأهمها العدل. وقديماً قال أبو مسلم الخولاني "إذا عدلت مع أهل الأرض جميعاً وجُرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

وإن خلع القداسة على الأحكام القضائية يتنافى وكون هذه الأحكام يصدرها بشر يصيبون ويخطئون. وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق، الذي لا ينطق عن الهوى وهو يتولى ولاية القضاء "إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ، وَأَنْتُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي نَحْوَ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". ويقول الإمام محمد عبده "ليس على القاضي في خطئه- إذا أخلص النية- تعقيب، فهو بشر قبل كل شيء، إنما عليه المآخذ تأخذه بالنواصي والإقدام، إذا انزلق في مزالق الهوى وأحاطت بعنقه الشبهات".

ثالثا: الأحكام القضائية عنوان الحقيقة

إن الاستشهاد بالمبدأ القاضي بأن الأحكام القضائية هي عنوان الحقيقة، بل هي الحقيقة ذاتها، في مقام الجدل حول مدى جواز نقد الأحكام القضائية، قد يكون مبناه غياب الفهم الصحيح لهذا المبدأ عن أصحاب هذا الاستشهاد، ذلك أن هذا المبدأ لا يعني سوى أنه لا يجوز للخصوم بعد أن استنفدوا كل وسائل الطعن في النزاع القضائي الذي شجر بينهم أن يعودوا لإثارة النزاع من جديد أمام المحاكم، وهو ما اصطلح على تعريفه بمبدأ حجية الأحكام، باعتبارها قرينة قانونية قاطعة أقامها المشرع، استقراراً للأوضاع القانونية، ولكن هذا المبدأ وهذه القرينة لا تحول بين المحاكم وبين العدول عن المبدأ أو الحقيقة التي قررها حكم سابق إذا عرض عليها نزاع جديد بين غير هؤلاء الخصوم، ولو اتحد هذا النزاع والنزاع السابق موضوعاً وسبباً، بل إن المحاكم الأدنى درجة تملك العدول عن مبدأ قانوني سبق أن قررته المحكمة العليا في نزاع آخر، الأمر الذي لا يقوم فيه هذا المبدأ مانعاً من نقد الأحكام القضائية.

وللحديث بقية إن كان للعمر بقية.