يعيش السعوديون اليوم إصلاحات اجتماعية وسياسية عديدة بدأت أفكاراً في «الجنادرية» تناقش حولها الجيل الأول بحدّة، حضرت تلك «النقاشات» الساخنة وكنت من المشاركين فيها... وللتعرف إلى ظاهرة «الجنادرية»، فإن مؤسسها وراعيها عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود- عندما كان رئيساً للحرس الوطني- قسمها قسمين: القسم التراثي الخاص بالمملكة العربية السعودية للحفاظ على «الهوية» والذي وجدت فيه دول الخليج الأخرى قدوة ونموذجاً للحفاظ على «هويتها» أيضاً في بداية عصر العولمة ومع تطوراته، ولا بد من الإشارة هنا إلى إن حمد بن عيسى آل خليفة، منذ أن كان ولياً للعهد إلى أن أصبح ملكاً للبحرين، كان شديد الحرص على إحياء «يوم التراث» بمتحف البحرين الوطني كل عام موجهاً بأن يركّز الاحتفال على جانب من جوانب التراث- كتربية الخيول أو صيد اللؤلؤ... إلخ- من منطلق «الإحياء التراثي» الذي أراده الملك عبدالله بن عبدالعزيز للسعودية وشقيقاتها دول الخليج العربية.

Ad

أما القسم الثاني الذي قرره الملك عبدالله فهو الندوات الفكرية في الجنادرية التي ظلت مقتصرة على السعودية، ولكن أصغى إليها ليس مجتمعات الخليج العربي فحسب إنما المجتمعات العربية قاطبة. جاءت ندوات «الجنادرية» مطلع الثمانينيات في لحظة صعبة من تاريخ الثقافة العربية، وتاريخ العرب السياسي بعامة.

فقد تم إغلاق الحدود العربية في وجه المطبوعات الثقافية العربية التي كانت تسافر من الخليج إلى المحيط دون عوائق، وصار على المطبوعة الثقافية العربية أن تراعي الحساسيات السياسية في البلد الذي تريد دخوله.

في تلك اللحظة الصعبة جاءت، برغبة من عبدالله بن عبدالعزيز ندوات «الجنادرية» الفكرية... وقد مثلت ملتقى ثقافياً عاماً يلتقي فيه المثقفون العرب لقاءً تفاعلياً مثمراً، ضمن بيئة محافظة كان طرح «الأفكار الجديدة» بها مغامرة قد تخطئ وقد تصيب، ولكنها الرؤية «المستقبلية» الهادفة في غد آت للتغيير والتطوير، كما نراه اليوم.

وكان «مهندس» تلك الندوات الفكرية- بإشراف الملك عبدالله- ذلك المفكر الهادئ المرحوم عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، العارف بخصوصيات المجتمع السعودي وبأدق دقائقه، والذي فقدناه في زمن نحن أحوج ما نكون إليه، ولكن «دافع الإصلاح» الذي خلّفه في مجتمعه كان التعويض الحقيقي عن رحيله.

استنّ التويجري، رحمه الله، عادة حميدة تتمثل بزيارة المدعوين المشاركين في ندوات «الجنادرية» في الفندق الذي يقيمون فيه قبل بدئها، وكان يفتح صدره معهم لأي سؤال أو حوار بشأنها، وأذكر أني قلت له ذات سنة أمام الحاضرين إن السعودية لم يتوافر لها- بعد- راصد موضوعي يقرر الحقيقة بشأنها، والذين يكتبون عنها إما أنهم مدفوعون بعامل الطمع، فينافقون، مبالغةً في المديح لينالوا ما يطمحون إليه، وإما أنهم مدفوعون بعامل الحقد فيسرفون في الهجوم والنقد، دون حق، لكي ينالوا، بهذا الأسلوب، ما يصبون إليه. هكذا نفتقد الباحث الموضوعي الذي يقرر الحقيقة دون إفراط أو تفريط. وما زالت هذه الظاهرة قائمة للأسف.

وأذكر أن التويجري استمع إلى رأيي بهدوء، فكان حريصاً على أن أتحدث بما أشاء، ثم انتقل إلى موضوع آخر مع ضيوفه الكثر.

تراوحت موضوعات الندوات الفكرية في الجنادرية بين القضايا المختلفة التي تشغل الإنسان العربي في حياته الثقافية والسياسية والاجتماعية، كالمقابلة بين نهج العقل ونهج الإيمان في الاعتقاد الديني، وبين الاقتصاد الحر والاقتصاد الموجّه في حياة المجتمع، وبين الغرب والشرق في التوازن الدولي. وكان المتحاورون العرب القادمون من أقصى المغرب والمشرق يخوضون سجالات عنيفة حول هذه القضايا على أرض السعودية التي نعتبرها في بلدان الخليج العربية عمقنا الاستراتيجي و»بيت العرب الكبير».

وعندما يتأمل المرء اليوم في الإصلاحات والتطويرات التي يجريها الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية في بلاده، ويعود إلى قضايا الندوات الفكرية في «الجنادرية» يجد أن هذه من تلك، وأن تلك النقاشات الفكرية لم تكن «ترفاً ثقافياً»، بل كانت تمهيداً لإصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية تدور، منذ ذلك الوقت، في أذهان أصحابها، وكما أشارت صحيفة أجنبية ليس معروفاً عنها إنصافها لقضايا العرب، فإن «الصورة» في السعودية تتغيّر (الإيكونوميست: 28 يناير– 3 فبراير، ص 31).

وفي بلدان غنية، كالسعودية ودول الخليج لا يمثل الصراع الاقتصادي إلا جزءاً من الصورة، أما صراع الأجيال بين جيل قديم وآخر جديد، فلا بد أن يحسب حسابه أيضاً... من هنا فإن التغيير، بالدرجة الأولى، وقبل السياسة تغيير اجتماعي، فلا بد أن يتغير المجتمع أولاً... وبعدها يأتي التغير السياسي والاقتصادي... إلخ.

والذين تابعوا ندوات «الجنادرية» الفكرية منذ بدايتها يدركون أن تلك الندوات الفكرية كان هدفها مخاطبة العقول، قبل كل شيء، تمهيداً للتغيير المنتظر.

وقد تذكرت السعودية يوم أمس الأربعاء 16 ربيع الأول 1433هـ الموافق 8 فبراير 2012م، مهرجانها الوطني للتراث والثقافة لهذا العام، فعبدالله بن عبدالعزيز وفيٌّ لما بدأه، وإن أمر بإلغاء «الأوبريت الغنائي» للمهرجان تضامناً ووقوفاً مع الأشقاء العرب في سورية ومصر واليمن وليبيا وتونس، وحداداً على «العديد من الضحايا الأبرياء» الذين ذهبوا ويذهبون في الأحداث المؤسفة والمؤلمة.

وفي الختام لابد من تكرار الدعاء خلف مؤسس «الجنادرية» وراعيها: «اللهم اغفر للشهداء وارحمهم برحمتك وأزل الغمة عن بلادنا العربية والإسلامية، واحفظ أمنها واستقرارها، وادحر كيد أعدائها المتربصين بها»... اللهم آمين، فأنت ولي ذلك والقادر عليه.

* مفكر وأكاديمي من البحرين