يظن البعض عندنا أن نجاح أردوغان لكونه ذا توجه إسلامي، أو لشجاعته في الوقوف ضد إسرائيل إبان حرب غزة أو لمساندته الثورات العربية، وهذا صحيح عربياً، لكن نجاحه كرئيس لتركيا يكمن في الأساس في عدم معاداته للعلمانية الراسخة في البلاد منذ ما يقرب من 100 عام.

Ad

   كشف رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" عن موهبته الفنية وصوته الشجي حين غنى على الهواء مباشرة في إحدى القنوات التركية وبمصاحبة فرقة موسيقية أغنية عاطفية رقيقة تقول كلماتها: "كل مكان أجد فيه أثرك، مع أنني لا أريد تذكرك، لكن كل شيء يذكرني بك، وتحاصرني الذكريات من كل جهة، معاً... مشينا في هذه الطرقات، وسوياً... بللتنا حبات المطر المتساقطة، والآن في كل أغنية أسمعها، أجد شيئا يذكرني بك"!

رجب طيب أردوغان غنى أغنيته العاطفية هذه، وكذلك فعلت زوجته في تسجيل آخر أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة التي حقق فيها نجاحاً ساحقاً بحصول حزبه على 50.4% من الأصوات, الأمر الذي أفرح الكثير من النواب وشيوخ الدين المتشددين لدينا لسبب لا أفهمه بالمرة، فلا علاقة لأفكار وتصورات أردوغان السياسية والدينية بما يطرحه نوابنا الإسلاميون المتفرغون لمقاومة "الظواهر السلبية الدخيلة" وحماية المجتمع "المحافظ بطبيعته" من التغريب، ومحاربة العلمانية والعلمانيين وشتم الليبرالية والليبراليين، وممارسة هوايتهم كل عام بمنع الكتب في معرض الكتاب، ووضع قائمة الضوابط لحفلات الموسيقى والغناء، ومنع كل من لا تعجبهم أطروحاته الفكرية من دخول البلاد!

أردوغان لم ينجح في مسيرته إلا لأنه انقلب مع مجموعة من زملائه «المتنورين» على الحرس القديم في حزب الفضيلة المتشدد والساعي إلى تحويل تركيا إلى دولة إسلامية بقيادة "نجم الدين أربكان"، حيث قاموا بتغيير إيديولوجيا الحزب وطريقة ممارسته السياسية لكي تتوافق مع الشروط المدنية والعلمانية للدولة التركية، وأسسوا حزبهم الجديد "العدالة والتنمية" الذي وصفوه بغير المعادي للغرب، الذي يتبنى رأسمالية السوق ويسعى إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ذو جذور وتوجه إسلاميين لكنه ليس حزباً إسلاميا ويمثل تيار "الإسلام المعتدل"!

ولأنه معتدل فعلاً، لا كما يفهم الاعتدال عندنا، فقد طبق سياسة الانفتاح على العالم منذ توليه رئاسة الحكومة في عام 2003، إذ حرص على الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتركيا، وسعى إلى التصالح مع الأرمن واليونانيين بعد عداء طويل، وفتح الجسور السياسية والاقتصادية مع أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأرسى التعاون الحدودي مع العراق وسورية ورفع تأشيرة الدخول، وأعاد الأسماء الكردية إلى المدن والقرى الكردية بعد أن كان ذلك محظوراً، كما سمح رسمياً بالخطبة باللغة الكردية!

يظن البعض عندنا أن نجاح أردوغان لكونه ذا توجه إسلامي، أو لشجاعته في الوقوف ضد إسرائيل إبان حرب غزة أو لمساندته الثورات العربية، وهذا صحيح عربياً، فقد اكتسب شعبية عربية جارفة من خلال ذلك،

لكن نجاحه كرئيس لتركيا يكمن في الأساس في عدم معاداته للعلمانية الراسخة في البلاد منذ ما يقرب من 100 عام، ولأنه لم يقم كالملا عمر بفرض وصايته "الطالبانية" على الناس، ومارس السياسة وفقاً لدستور الدولة العلماني ولم يحاول الانقلاب عليه أو على مؤسسات الدولة المدنية، ونحج في التوفيق بين جذوره الإسلامية والمدنية الحديثة التي يحتاجها شعبه.

الآن... قارنوا بينه وبين الفرحين بانتصاره من النواب المتشددين عندنا، وهم النقيض لكل أفكاره الدينية والسياسية والاقتصادية المنفتحة على العالم، حيث الانغلاق والصدام ومعاداة الآخر شعارهم الدائم الذي لا يحيدون عنه لحظة واحدة، إنهم يشبهون "أربكان" الذي انقلب أردوغان على أفكاره... فلماذا كل هذا الفرح؟!

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة