شاهدت مقطع فيديو للشيخ الدكتور سعيد بن مسفر يتحدث فيه عن تنوع نغمات ورنات الهواتف النقالة هذه الأيام، وكيف أنها صارت تكشف عن طبيعة شخصية أصحابها حتى صار المرء مخبوءا تحت نغمة "جواله" على حد تعبير الشيخ سعيد، وأن هناك من تدل نغمة هاتفه على أنه رجل جاد رزين، وهناك من هو على النقيض تماما، رنة هاتفه تكشف بأنه "مرجوج" وبين هذه النغمة وتلك يتنوع الناس!
والحق أن التكنولوجيا اليوم قد صارت لصيقة بالإنسان في كل مناحي حياته، سواء أكان مجبرا على ذلك من خلال ما لا يمكن له أن يستغني عنه من الأدوات الحديثة العصرية، أو أنه كان باختياره، فقد صار هو أيضا لصيقا بها ولا يستغني عنها في كل مكان عبر مختلف الوسائل والأدوات التكنولوجية الكمالية، ولهذا فقد كان من المحتم أن ينعكس الأمر على شخصيته وطريقة تفكيره وأسلوب تعامله مع من حوله، وهذه التأثيرات في نفسية الإنسان وحياته الاجتماعية وعلاقاته وغير ذلك، قد صارت جميعها معروفة وكثر الحديث عنها خصوصا بعدما ظهرت جوانبها السلبية، وتعالى الأنين وارتفعت الشكوى.وتعد شبكات التواصل الاجتماعي من آخر مشتقات التكنولوجيا، وأكاد أقول إن الجميع قد دخلوا إلى عالمها الفسيح المليء بالعجائب، وبالأخص بعدما أصبحت برامج هذه الشبكات في كل الهواتف النقالة التي يحملها الناس في جيوبهم أينما ذهبوا وحلُّوا، وغدت الخدمة متاحة بأسعار زهيدة، ولهذا صار الكل مرتبطين ومتواصلين طوال الوقت مع عشرات الأشخاص في "تويتر" و"فيس بوك" و"واتسب" وغيرها من الشبكات، ربما أكثر من ارتباطهم بأي شخص حقيقي في واقعهم، لذلك يحق لنا أن نقول إنه قد صار المرء مخبوءا، ليس تحت نغمة جواله فحسب، إنما تحت جواله وما يبثه من خلاله من رسائل وتغريدات وصور ومقاطع فيديو!والناس، أو سأقول أغلبهم، عند دخولهم إلى هذه العوالم الاجتماعية الإلكترونية يرتدون في البداية ما يشبه الأقنعة أو الهيئات المختلفة إلى حد ما عن حقيقتهم، فتراهم يتجملون ويتصنعون الكثير من الطباع والخصال أمام جمهورها الكبير، ولكن مع مضي الوقت وبعد كثرة الاستخدام والممارسة والألفة، تسقط الكلفة، بشكل لا شعوري ربما، فتسقط الأقنعة والحلل والهيئات، أو أجزاء كبيرة منها، لتبين وتظهر الصور الحقيقية إما بالكامل وإما أجزاء منها، فالإنسان مهما تظاهر سوف يتعب أو ينسى ويسهو وينكشف القناع.رأينا في "تويتر" كيف انكشفت الشخصيات الحقيقية لكثير ممن كنا لا نعرفهم إلا عبر وسائل الإعلام التي رسمت لنا هيئات تحيطها الهالات والأضواء التي تغشي الأبصار. رأينا ساسة وإعلاميين وكتّابا وأساتذة يظهرون بصور وهيئات لم تكن لتخطر لنا على بال. رأينا مثلا نائبا فاضلا سابقا يتحدث عن جروه الصغير ذي العيون الكحيلة، ولست هنا أذكر هذا من باب الازدراء، فأنا أدرك أن غير المقبول عندي قد يكون مقبولا عند غيري وأن الأمور نسبية، لكنني أذكره كمثال على أن هذه الشبكات صارت تكشف لنا ما لم يكن متاحا عبر وسائل الإعلام التقليدية السابقة!لذا فعند الدخول في "تويتر"، وسائر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الشخص، خصوصا إن كان من الشخصيات العامة المعروفة، أمام خيارين يتبعهما ثالث؛ إما أن يسعى لتقديم نفسه بشكل رسمي وهيئة محكمة جدا، وإما أن يقدم نفسه بهيئته المباشرة بقوتها وضعفها، بجدها وهزلها، بلا تهيب من الوقوع في الهفوات والأخطاء، وإما أنه يسعى إلى الخيار الثالث، وهو أن يقدم نفسه بهيئة وسيطة ما بين هاتين الهيئتين، كإنسان متفاعل مع الجميع بتواضع ولكن دون إسراف، ومتباسط ولكن دون ابتذال وهكذا. والحق أن هذا الخيار، وبالرغم من كونه الأكثر وجاهة، ليس بالخيار السهل دوما لأنه سيتطلب رقابة ذاتية مستمرة، بحيث يذكِّر الإنسان نفسه دوما أن هذا القريب الدائم والمحمول في الجيب طوال الوقت، وأعني الهاتف النقال بما فيه من وسائل التراسل والتواصل الاجتماعي، ليس لعبة على الإطلاق، بل رسائله تصريحات مرصودة مسجلة خالدة ستنتشر بين الناس انتشارا خارقا، وسيكون المرء مسؤولا ومحاسبا عنها كثيرا.عالم شبكات التواصل الاجتماعي، عالم جميل عاصف غريب مليء بالعجائب، كما أسلفت، وسيظل يتحفنا في كل حين بالجديد والغريب، فالكل فيه سيظل يغرد على ليلاه، وآه ثم آه!
مقالات
كل يغرد على ليلاه
16-08-2011