لقد نجحت اليونان في شراء بعض الوقت بفضل حزمة جديدة من الدعم المالي، ولكن البلاد لم تخرج من المأزق بعد، فما زال علينا أن نرى ما إذا كانت تدابير التقشف الصارمة التي وعدت بها حكومة رئيس الوزراء جورج باباندريو ستثبت أنها مقبولة سياسياً وقابلة للدوام.

Ad

الواقع أن التاريخ يشير إلى بعض أسباب الشك، ففي ظل نظام ديمقراطي، عندما تتصادم مطالب الأسواق المالية والدائنين الأجانب مع المطالب المحلية للعمال والمتقاعدين وأبناء الطبقة المتوسطة، فإن القول الفصل يكون للمحللين عادة.

إن خروج بريطانيا من قاعدة معيار الذهب في عام 1931 يظل يشكل معلماً تاريخيا، فبعد ارتكاب الخطأ المتمثل باستعادة التعادل مع الذهب عند مستوى جعل الاقتصاد غير قادر على المنافسة تماما، كافحت بريطانيا لسنوات عدة الانكماش وارتفاع معدلات البطالة، وكانت صناعات مثل الفحم والفولاذ وبناء السفن هي الأكثر تضررا، فتفشى الصراع العمالي، وحتى مع بلوغ معدلات البطالة نسبة 20%، كان بنك إنكلترا (المركزي البريطاني) ملزماً بالإبقاء على أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة من أجل منع تدفق الذهب بكميات هائلة إلى الخارج، وفي النهاية، دفعت ضغوط السوق المالية المتزايدة البلاد إلى الخروج من معيار الذهب في سبتمبر من عام 1931.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطلبت فيها الاستقامة المالية أن يعاني الاقتصاد الحقيقي في ظل معيار الذهب، ولكن الأمر المختلف آنذاك هو أن بريطانيا تحولت إلى مجتمع أكثر ديمقراطية: إذ انخرطت الطبقة العمالية في النقابات، وتوسعت الحقوق الدستورية السياسية إلى أربعة أمثالها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وبدأت وسائل الإعلام الشعبية بالنشر عن المحنة الاقتصادية التي يعيشها الناس العاديون، هذا فضلاً عن الحركة الاشتراكية التي كانت تنتظر الخفاء، وعلى نحو مخالف لغرائزهم، أدرك محافظو البنوك المركزية وسادتهم من الساسة أنه لم يعد بوسعهم أن يظلوا بمنأى عن العواقب المترتبة على الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة.

والأمر الأكثر أهمية من ذلك أن المستثمرين أدركوا تلك الحقيقة أيضا، وحالما بدأت الأسواق المالية بالتشكيك في مصداقية التزام الحكومة بثبات سعر الصرف، تحولت إلى قوة لزعزعة الاستقرار، وعند أول تلميح إلى انحراف الأمور عن مسارها السليم، كان المستثمرون والمودعون يسحبون أموالهم وينقلون رؤوس أموالهم إلى خارج البلاد، الأمر الذي عجل بانهيار العملة.

ولقد تكرر السيناريو نفسه في الأرجنتين في أواخر تسعينيات القرن العشرين، فكان محور الاستراتيجية الاقتصادية في الأرجنتين بعد عام 1991 يتلخص في قانون التحويل، الذي أرسى البيزو قانوناً في مقابل الدولار الأميركي عند سعر صرف واحد إلى واحد، وحظر فرض أي قيود على تدفقات رأس المال.

كان وزير الاقتصاد الأرجنتيني دومينغو كافالو آنذاك ينظر إلى قانون التحويل باعتباره وسيلة للسيطرة ومحركاً للاقتصاد في آن. وفي مستهل الأمر نجحت تلك الاستراتيجية إلى حد كبير في تحقيق استقرار الأسعار الذي كان مطلوباً بشدة، لكن بحلول نهاية العقد كان كابوس الأرجنتين قد عاد بكل فظاعته.

وفي أوائل عام 1999 كانت الأزمة المالية الآسيوية وانخفاض قيمة العملة البرازيلية سبباً في إظهار المبالغة في تقييم البيزو الأرجنتيني، وتضاعفت الشكوك حول قدرة الأرجنتين على سداد أقساط ديونها الخارجية، فانهارت الثقة، وقبل أن يمر وقت طويل تراجعت الجدارة الائتمانية للأرجنتين إلى أن أصبحت أدنى من مثيلاتها في بعض البلدان الإفريقية.

في نهاية المطاف، لم يكن تحديد مصير الأرجنتين راجعاً إلى افتقار قادتها إلى الإرادة السياسية، بل كان نابعاً من عجزهم عن فرض سياسات متزايدة التكاليف على ناخبيهم المحليين، والواقع أن الحكومة الأرجنتينية كانت على استعداد لإلغاء العقود المبرمة مع كل الدوائر المحلية- موظفو القطاع العام، والمتقاعدون، وحكومات الأقاليم، ومودعو البنوك- حتى يتسنى لها أن تفي بالتزاماتها للدائنين الأجانب.

ولكن شكوك المستثمرين تنامت إلى حد كبير في استعداد الكونغرس الأرجنتيني، والأقاليم، والمواطنين العاديين، للتسامح مع سياسات التقشف المطلوبة للاستمرار في سداد أقساط الدين الخارجي، ومع انتشار الاحتجاجات الحاشدة، تبين أنهم كانوا على حق، فعندما تصطدم العولمة مع السياسات المحلية، يراهن المال الذكي على الفريق المضيف.

ولعلنا نستطيع أن نتبين مساراً آخر، ولنتأمل هنا حالة لاتفيا، التي وجدت نفسها أخيراً ضحية لمصاعب اقتصادية أشبه بتلك التي عانتها الأرجنتين قبل عقد من الزمان، فقد شهدت لاتفيا نمواً سريعاً منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، وكان ذلك النمو قائماً على الاقتراض على نطاق واسع من الخارج إلى جانب فقاعة العقارات المحلية. وفي نهاية المطاف وقعت في عجز كبير في الحساب الجاري وأزمة ديون خارجية ثقيلة لا تقل في أبعادها عن الأزمة اليونانية.

وكما كان من المتوقع، كانت الأزمة المالية العالمية وانعكاس مسار تدفق رؤوس الأموال على نحو مفاجئ في عام 2008 من الأسباب التي دفعت بالاقتصاد في لاتفيا إلى حالة يرثى لها. ومع انهيار الإقراض وانفجار فقاعة أسعار العقارات، ارتفعت معدلات البطالة إلى 20% وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18% في عام 2009، وفي شهر يناير من عام 2009 شهدت البلاد أسوأ أعمال شغب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

كانت لاتفيا تحدد سعرا ثابتاً للصرف، ولم تفرض أي قيود على تدفقات رأس المال، تماماً كما فعلت الأرجنتين، فقد ربطت عملتها باليورو منذ عام 2005، ولكن على النقيض من الأرجنتين، تمكن ساسة البلاد من تحمل فترة قاسية من المصاعب من دون اللجوء إلى خفض قيمة العملة وفرض ضوابط على رأس المال.

 ويبدو أن الأمر الذي ساعد في تغيير التوازن بين التكاليف السياسية والفوائد كان يتلخص في احتمال بلوغ الأرض الموعودة المتمثلة بالالتحاق بعضوية منطقة اليورو في نهاية المطاف، وهو ما ألزم صناع القرار السياسي في لاتفيا باستبعاد أي خيارات من شأنها أن تعرض ذلك الهدف للخطر، وهذا بدوره ساعد في زيادة مصداقية التدابير التي اتخذوها، على الرغم من التكاليف الاقتصادية والسياسية المرتفعة التي ترتبت على هذه التدابير.

تُرى هل تسلك اليونان مسار الأرجنتين أو لاتفيا؟ إن الحسابات الاقتصادية ليست مشجعة، وما لم يتمكن الاقتصاد اليوناني من التعافي، فإن تحمل ديون جديدة ليس أكثر من وسيلة تلطيف مؤقتة وستفرض المزيد من تدابير التقشف في المستقبل، وما دام الطلب المحلي كاسداً فإن الإصلاحات البنيوية- الخصخصة وتحرير أسواق العمالة والخدمات المهنية- من غير المحتمل أن تؤدي إلى النمو المطلوب.

كما تثبت لنا تجارب بريطانيا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين- وفي وقت أقرب عهداً بالحاضر في الأرجنتين ولاتفيا- فإن السياسة هي التي تحدد النتيجة في نهاية المطاف، ولكي يحظى البرنامج اليوناني بأي فرصة للنجاح، فيتعين على حكومة باباندريو أن تبذل جهوداً جبارة لإقناع مواطنيها بأن الآلام الاقتصادية ثمن يتوجب عليهم أن يتكبدوه من أجل مستقبل أكثر إشراقا، وليست مجرد وسيلة لإرضاء الدائنين الأجانب.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».