إن قبول الشخص الوظيفة العامة أو عملاً نيابياً أو عملاً عاماً، هو قبول للواجبات التي تفرضها عليه هذه الوظيفة أو هذا العمل، وأول هذه الواجبات التزامه بما قد يوجبه القانون عليه من تقديم إقرار الذمة المالية الذي ينص عليه القانون، سواء في بداية خدمته أو في نهايتها أو في المواعيد الدورية التي يحددها هذا القانون، بما يلزمه بتبعات تقديم هذه الإقرارات، من قيام مسؤوليته الجنائية والمدنية عن أي تضخم في ثروته يعجز عن إثبات مصدر مشروع له.

Ad

«النقض المصرية» لها رأي آخر

وهو قول صحيح في ذاته، إلا أن محكمة النقض المصرية كان لها رأي آخر في قانون الكسب غير المشروع في الحكم الذي أصدرته ببراءة محافظ الجيزة الأسبق عبدالحميد حسن، والذي امتنعت فيه عن تطبيق قانون الكسب غير المشروع لمخالفته الدستور؛ لأن الإدانة في جرائم الكسب غير المشروع تقوم على قرينة افترضها المشرع من واقعة زيادة ثروة الموظف العام مع عجزه عن التدليل على أسباب هذه الزيادة، بما يخالف افتراض البراءة في الإنسان الذي نص عليه الدستور. وقد كان لي تعليق على هذا الحكم في مقال نُشر لي في صحيفة "الأهرام" في عددها الصادر يوم 17/ 05/ 2004، أرجعت فيه هذا القضاء من محكمة النقض، الذي سلب ولاية المحكمة الدستورية باعتبارها الجهة القضائية الوحيدة التي تنعقد لها وحدها بنص الدستور رقابة دستورية القوانين إلى أسباب عدة ، أكتفي منها في هذا السياق بما قلته من اطمئنان ضمير المحكمة ووجدانها إلى براءة المتهم، وأنه قد مضى على بدء التحقيق معه ستة عشر عاماً، وأن في وقف الدعوى وإحالتها إلى المحكمة الدستورية، ما يؤخر الفصل في الطعن المقدم أمام محكمة النقض، بما يضر بحسن سير العدالة إذا ما بقي متهم بريء مصلتاً عليه سيف الاتهام والإدانة في أمر شائن يهبط بقدره وكرامته في نظر الناس، ويوجب احتقار المتهم عند أهله ومجتمعه.

قانون الهيئة العامة للنزاهة

استعدت قضاء محكمة النقض وأنا أطالع على صفحات الصحف أن مجلس الوزراء وافق بجلسة 29 يناير الجاري على مشروع بقانون بإنشاء الهيئة العامة للنزاهة، وأن من بين الأحكام التي تضمنها هذا القانون، إلزام الشاغلين لوظائف عامة أو نيابية بتقديم إقرارات الذمة المالية، وهي الإقرارات التي تضمنها قانون الكسب غير المشروع في مصر.

قضاء المحكمة الدستورية

استعدت قضاء محكمة النقض المصرية، كما استعدت مع هذا القضاء ما قضت به المحكمة الدستورية في الكويت بجلسة 10/ 11/ 1998 في الطعن رقم (7) لسنة 1998 بأن افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة (34) من الدستور، إنما يؤسس على الفطرة، وأنه لا يجوز نقض هذه القرينة إلا بحكم قضائي جازم يصدر في ضوء الأدلة المثبتة للجريمة في كل ركن من أركانها.

فضلاً عن قضاء المحكمة الدستورية في حماية الحق في الخصوصية، وهو حق قررت المحكمة الدستورية في الكويت أنه حق يحميه الدستور تأكيداً للحرية الشخصية مما لا يجوز معه التعرض لعناصر الذمة المالية للأشخاص (جلسة 14/ 6/ 1986- طلب التفسير رقم 1 لسنة 1986).

اللجوء إلى المحكمة الدستورية

وهو ما يفرض على الحكومة ومجلس الأمة، أن يلجأ أيهما إلى المحكمة الدستورية بطلب تفسير المادة (30) من الدستور في ما نصت عليه "من أن الحرية الشخصية مكفولة وتفسير المادة 34 سالفة الذكر، لتقرر في ضوء هذين النصين وفي ضوء تفسيرها السابق ما إذا كان إلزام، كل من يشغل وظيفة عامة أو نيابية بتقديم إقرار بذمته المالية لا إخلال فيه بالحق في الخصوصية الذي يحميه الدستور أو بافتراض البراءة في الإنسان. ولمثل هذا الطلب سابقة في عام 1986 عندما قدم بعض الأعضاء في 5/ 4/ 1986 اقتراحاً بقانون بتفسير تشريعي للمادة الأولى من قانون المحكمة الدستورية، فقدمت الحكومة إلى المحكمة الدستورية طلباً بتفسير المادة (173) من الدستور (رقم 3 لسنة 1986)، الذي انتهت فيه المحكمة إلى تفسير لهذه المادة يجعل من الاقتراح بقانون سالف الذكر اقتراحاً يسلب ولايتها في تفسير النصوص الدستورية، وهي ولاية قررت المحكمة أنها تستمدها من نصوص الدستور مباشرة، وهو التفسير الذي أدى إلى سحب الاقتراح بقانون سالف الذكر، وهو ما لا نرجوه لمشروع قانون الهيئة العامة للنزاهة.