المسافر... الحياة في عين كاميرا الموهوب أحمد ماهر

نشر في 07-10-2011
آخر تحديث 07-10-2011 | 00:01
No Image Caption
 محمد بدر الدين «المسافر»، الذي أثار جدلاً، قبل بداية عرضه، «حالة» سينمائية، من الناحية الفنية، لها تميّزها ووقعها الخاص، وفيلم «تأمّل} من الناحية الفكرية، ولعلّ السفينة الهادرة النابضة بالحياة فيه هي الحياة ذاتها، بكل الصخب والتناقض والعلاقات والمفارقات.

إنه التأمّل في الحياة، بنظرة خاصة، لمبدع الفيلم المخرج الشاب الموهوب أحمد ماهر، من خلال تصوير ثلاثة أيام حافلة في حياة حسن (يجسّد هذه الشخصية في الكبر الفنان القدير عمر الشريف وفي سن الشباب الفنان الموهوب خالد النبوي)، يتذكّرها في ختام الرحلة، مع نافذة قطار في بداية الفيلم تطلّ على الحياة والزمن والذكرى وتستعيد الذاكرة أياماً ولحظات مهمة، ذات دلالة وخصوصية.

وكيف لا تكون ذات دلالة وخصوصية قومية بامتياز وليست شخصية فحسب، وهي ثلاثة أيام من سنوات 1948 (عام النكبة الفلسطينية العربية)، 1973 (عام العبور لتحرير الأرض من آثار النكسة)، 2001 (عام الهجمات على البرجين والبنتاغون في نيويورك وواشنطن)؟

لا يعني قطار الافتتاحية رحلة الحياة المستمرّة عبر محطات ومرافئ تسير بنا من حال إلى حال فحسب، إنما توجد تلك السفينة الكبيرة في مشاهد اليوم الأول، حيث يتعرّف حسن (موظف في مكتب التليغراف) إلى نورا (جسّدتها سرين عبد النور بتوفيق واضح وتكامل مع بقية الأبطال) وتفتنه بجمالها، فيدّعي أنه فؤاد (يظهر في ما بعد ويؤدي الدور عمرو واكد)، باعتبار أنها جاءت لتتزوّج من فؤاد لكنها لم تره منذ تركت مدينة بورسعيد وهي طفلة.

يبدو حسن في اقترابه من نورا كأنما تحرّكه أقدار وأسيراً لمشاعر شاملة غامضة وليست رغبة الجنس التي تتحقق بالفعل فحسب، وتبدو هي حائرة بين الإعراض والتجاوب، لكنّ مصيراً يشدّهما، ليجمع بينهما في قصة كالأسطورة، تثمر لاحقاً ابنة هي نادية (تجسّد شخصيتها سيرين أيضاً)... ويحدث صدام هائل بين حسن وفؤاد عند مجيء الأخير، لكن حتى نادية يتّضح أنها ثمرة علاقة نورا بحسن وليس بفؤاد، وبعد تردّد يتأكد حسن من ذلك.

يجنح ماهر، في إخراجه الفيلم، بتصوير بارع لماركو أونورانو، إلى مشاهد طويلة لكن حافلة بالحيوية، متفادياً اللقطات السريعة والقريبة، لتأكيد طابع التأمل الفكري المتّسم به الفيلم.

يخاطب أسلوب ماهر العقل أكثر من العاطفة، قاصداً عدم اقتراب الكاميرا من انفعالات الوجوه وتعبير العيون، حتى في مشاهد بالغة الحيوية والأهمية، لكن مع تحقيق جاذبية للفيلم في مراحله المختلفة، من خلال جماليات مميزة عبر ديكور أنسي أبو سيف المتقن الأخاذ، والملابس التي صمّمتها دينا نديم بتدقيق واضح، وغير ذلك من العناصر الفنية التي أكّدت تصوّر المخرج كاتب الفيلم وصاحبه الذي حلم بتنفيذه وتجسيده طويلاً، إلى أن تحقق بدعم من وزارة الثقافة، التي تحمّلت تكاليف الإنتاج البالغة 20 مليون جنيه، وهو الفيلم الوحيد الذي أنتجته الدولة المصرية، منذ إعلان توقّفها عن الإنتاج وإلغاء القطاع العام السينمائي قبل 40 عاماً (نوفمبر 1971).

يعتبر اختيار «مهرجان البندقية السينمائي الدولي العريق» فيلم «المسافر»، ضمن أفلام مسابقته الرسمية، إنجازاً نادراً بالنسبة إلى السينما لدينا، حتى من دون الحصول على جوائز. إلا أن الفيلم تعرّض بعد إنتاجه ـ لما يقرب من عامين ـ إلى هجوم البعض لما اعتبره هدراً لمال الدولة في إنتاج الفيلم، حتى قبل مشاهدته، وإلى انتقاد بطله الكبير عمر الشريف، من منطلق أنه كان يتمنى أن يكون الفيلم «أكثر جماهيرية»، ليلقى تجاوباً أكثر عند عرضه، باعتباره يظل ـ وفق الإطار الذي قدم فيه ـ ضمن ما يعرف بأفلام المثقفين أو النخبة والمهرجانات.

والحقّ أنه لا غضاضة أبداً، في رأينا، من تقديم هذه النوعية من الأفلام، إذا جاءت تعبيراً دقيقاً وصادقاً عن رؤية صانعها  للحياة، فلا يجب أن تكون عين المبدع أبداً على المتلقّي ومدى تجاوبه، أثناء تنفيذ الفيلم، إذ عادة ما يؤدي هذا النوع من «الانشغال بالجمهور» إلى تنازل فارتباك فعدم الحصول على شيء، سواء في تحقيق الفن وذات المبدع أو الوصول إلى الجمهور العريض وتحقيق رضاه. وهل ثمة من يضمن، على مرّ تاريخ السينما وفي مستقبلها، مثل ذلك الرضا؟

يكفي ماهر، الذي أكّد صدق موهبته ودأبه في عمله، في فيلمه المهم «المسافر»، أنه كان أميناً مع نفسه وفنه... وهذه الحالات من الصدق الفني، في السينما وغيرها من وسائل الإبداع والتعبير، هي التي تبقى في ذاكرة الفنون، وتظل مؤثرة ولها قيمتها على مرّ الأيام.

«المسافر» رحلة في الفن، تطلّ على رحلة الإنسان في الحياة، وهو تجربة سينمائية مميزة تتمهل في النظرة وتتأمل برهافة، من خلال جماليات سينما حقيقية، لا تقدم  واقعاً أو «واقعية» بصورة نمطية معهودة، إنما فيلماً يتجاوز الواقعية، لينفذ أكثر إلى قلب الواقع.

back to top