صلاح فائق القادم من بعيد
أخيراً ظهر الشاعر العراقي صلاح فائق، ظهر فجأة بدعوة من المهرجان الشعري «أصوات حية» في مدينة «سيت» في الجنوب الفرنسي، وكان ظهوره في المهرجان مفاجأة جميلة لأصدقائه من الشعراء، وأيضاً لجمهوره، قادماً من جزيرة بعيدة في الفلبين بعد غياب طال أكثر من عشرين عاماً، صامتاً وزاهداً عن النشر في المجلات والصحف العربية، لكن دون أن يتخلى عن كتابة قصيدته الطليعية التي تمثله، مشغلة الشاعر الأثيرة التي يصعب التخلي عنها، ووفقاً لما كتبه الشاعر عباس بيضون الذي كان أحد المدعوين إلى المهرجان، بدا أن صلاح فائق متفاجئ هو الآخر، للحفاوة التي استقبل بها سواء من المهرجان أو من أصدقائه من الشعراء العرب، لم أكن مدعواً في مهرجان «سيت» لقد حضرتُ في السنوات القليلة الماضية دعوة مهرجان «لوديف» لأصوات البحر الأبيض المتوسط، وكان من بين الشعراء العراقيين المدعوين، سعدي يوسف والراحل سركون بولص، وكنتُ كلما التقي سركون غالباً أسأله عن صلاح فائق، عن آخر أخباره، إن كان يعلم بها، مرة وكنا في منزلي في السويد، سألت سركون، ترى أين صلاح فائق الآن؟ فأجاب سركون بنوع من الصداقة والدعابة الشعرية: صلاح في الفلبين، يقال إنه فتح معملاً لصناعة الأزرار! ومرة أخرى قال لي: أظن أن صلاح يُدير مصنعاً صغيراً لصنارات السمك الاصطناعية، انه شاعر حقيقي. أذكر أن مجموعته «مقاطعات وأحلام» كان قد أرسلها إلي من لندن مع إهداء لطيف عندما كنتُ مقيماً في المغرب، ثم قرأت له مجموعته الشعرية «رحيل» وكتاباً شعرياً باللغة الإنكليزية كان عنوانه «حريق يليق بمدينة». كان ذلك قبل أن يختفي عن المشهد الثقافي العربي، وقتها قيل ربما كان في تركيا، أو في بلد آخر، بعد هذا الاختفاء أذكر أن الشاعر أمجد ناصر كتب مقالته «من يتذكر صلاح فائق؟» يُشير فيها إلى عمل فائق الشعري الأول «رهائن» الذي صدر في دمشق عام 1975، باعتباره عملاً مفاجئاً وغير مسبوق في مدونة قصيدة النثر العربية، وقد ينطبق نفس هذا الكلام على عمله الشعري التالي «تلك البلاد» لندن 1978. ويذكر أن قصيدة رهائن كان قد نشرها الشاعر في العراق في عام 1972.
على أي حال يظل صلاح فائق أحد أجمل الأصوات الشعرية الطليعية في العالم العربي، بذائقته الجمالية وظلال قصيدته المختلفة، وهي قصيدة فردية بامتياز، أشبه ما تكون بلوحة ذات تدرجات لونية متنوعة، تحتضن في داخلها أفقاً بصرياً، أخاذاً أقرب إلى جماليات فن الكولاج، انها تجمع بين مقتربات سوريالية خاصة وأصداء غنائية شفيفة، وملامح ميتافيزيقية خافتة.إن اللافت في جماعة كركوك منذ ستينيات القرن الماضي، التي كانت تضم سركون بولص، مؤيد الراوي، جان دمو، صلاح فائق، أنور الغساني، فاضل العزاوي، الأب يوسف سعيد، جليل القيسي، القاص يوسف الحيدري، وآخرين، اختلاف طرائقهم في الكتابة رغم ما قد يبدو من تشابه في الأحوال الحياتية والاجتماعية، وهذا ما دفع بهذه المجموعة إلى إحداث نوع من المغايرة والقطيعة الجمالية والفكرية مع طرائق الكتابة التي كانت سائدة في العراق آنذاك، وعندما بدأت السلطة تضيق الخناق على المثقفين والفنانين والكتاب بسبب آرائهم وكتاباتهم الراديكالية ومنهم جماعة كركوك، فقد غادر أغلب هذه الجماعة في فترة مبكرة، بحثاً عن الحرية في المنافي المختلفة التي احتضنتهم لاحقاً. يستطيع صلاح فائق أن يقول الآن كما كتب ذات مرة في كتابه «مقاطعات وأحلام»: «رجل تعب من الأسفار إنه، الآن، شاهد صامت لما رآه».