كيفية الخروج من القدامة إلى الحداثة العربية

نشر في 07-09-2011
آخر تحديث 07-09-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي لا سبيل لنا إلا بتقليد النخب الحديثة التي انتصرت على نخبها التقليدية، وذلك باستخدام العلوم الإنسانية في نقد تراثها، وصنع قرارها، وتحليل مشكلاتها في إعلامها، وتعليمها، وحياتها الثقافية. فليس مصادفة أن أبا حامد الغزالي (1058-1111م) كفَّر الفلسفة، وأن الحنابلة كفّروا المنطق، وأن المتأسلمين المعاصرون كفَّروا العلوم الإنسانية.

- 1 -

دعونا نُكمل باقي العوامل المسببة لعدم ركوب سفينة نوح (الحداثة) والنجاة من عنف الثورة الشعبية، فمن هذه العوامل، أن تجليات النرجسية الدينية كانت من العوائق الذهنية لاندماجنا في الحداثة. وتجليات النرجسية الدينية عديدة منها: حظر زواج المسلمة بغير المسلم "غير المكافئ لها"، أما لا شعورياً فيعبر عن الرغبة في نكاح المحارم عبر الزواج من داخل العشيرة المعروف بين بعض القبائل البدائية، التي تُحرِّم الزواج من خارج القبيلة. كما تجلّى في تقديس اللغة العربية التي تماهت بالقرآن الكريم، دون مبرر أو تكليف ديني، مما أعاق تطوير رسمها، ونحوها، وإثراء معجمها بالمصطلحات الغربية على غرار العبرية التي "عبرنت" 90 في المئة من مصطلحاتها، وكما لاحظ المفكر الجزائري مالك بن نبي، فقد فُتن العرب بلغتهم الجميلة، فحولوها إلى وثن يعبدونه، وكما قال المفكر المغربي عبدالهادي عبدالرحمن: "فلو أن العرب أغلقوا لغتهم في الماضي كما أغلقوها الآن، لما أمكن لغة القرآن من استيعاب كل تلك التراكمات الهائلة من الاجتهادات، ولا ذلك الانفتاح التأويلي الكبير". والإعلام والتعليم الديني يعيدان الإنتاج الموسع لهذه النرجسية اللغوية، فالإعلام بما هو مدرسة بلا جدران، يُدخل التعصب والهذيان النرجسي اللغوي إلى كل مكان، كما يُنتج التعليم بالتسلسل، أجيالاً من المهووسين بنقاء الهوية الدينية، مثل هوس النازيين بنقاء الهوية العرقية، وكما استولى على النازيين رهاب تمازج القوميات والثقافات بالأمس، أصيب اليوم دعاة النرجسية الدينية برهاب تلاقح الإسلام مع الديانات والثقافات الأخرى، على الرغم من أن الإسلام بدا في عصر الفتوحات مستلهماً ثقافات الشعوب التي فتحها، مقدماً ثقافة عالمية لا ترتبط بنزعة قومية أو وطنية.

وعلى الرغم من أنه بدأ عربياً فإنه انتهى كونياً، ليس بحكم بدايته ولكن بحكم تشكله التفاعلي مع حضارات مختلفة كلياً، وهذه النرجسية، تخضع لنفس منطق النرجسية القومية: تحويل التفاوت التاريخي بين الثقافات والقوميات إلى تفاوت طبيعي، وأخيراً حتمية سحق العرق الآري "الأعلى" لجميع الأعراق "الدنيا" في النازية.

لقد لعبت هذه النرجسية في نظر مفكر معاصر كالمفكر التونسي العفيف الأخضر، دور العائق الذهني الذي ساهم في ردع نخب وشعوب العالم العربي عن الاندماج في الحداثة، منذ تحوّل العرب المسلمون من أمة فاتحة إلى أمة مفتوحة، وبدأ الفقه الإسلامي ينطوي على نفسه أكثر فأكثر، ويتحول إلى فقه جهادي ضد "الكفار" مُحرِّماً التشبه بهم، وتقليدهم، والتبادل معهم، وأصبحت بلدانهم "دار حرب" لم يعد يسمح للمسلم دخولها إلا بفتوى، (لماذا النرجسية الدينية عائق ذهني لاندماجنا في الحداثة؟ جريدة "إيلاف" الإلكترونية، 15/7/2003).

- 2 -

والسؤال الآن الذي يجب أن نجيب عنه:

ما العمل لمساعدة العالم العربي على الخروج من القدامة والدخول في الحداثة؟

يرى بعض المفكرين السياسيين والمؤرخين العرب المعاصرين، ألا سبيل لدخول العالم العربي إلى رحاب الحداثة إلا بالتدخل الخارجي الذكي والفعال، لدعم النخب الإصلاحية بالضغوط الدبلوماسية، الإعلامية والإنسانية لتنتصر على النخب التقليدية السياسية والدينية، لإصلاح التعليم الديني وقوانين الأحوال الشخصية على الطريقة التونسية، ولتبني التقدم التدريجي والحقيقي إلى الديمقراطية، انطلاقاً من الاعتراف بحرية الإعلام، والبدء بتطبيق حقوق الإنسان بتعريف الحد الأدنى: مساواة المسلم بغير المسلم، والمرأة بالرجل.

فما القوى المؤهلة لممارسة هذه الضغوط؟

إنه المجتمع المدني العالمي الصاعد والديناميكي مثل "منظمة العفو الدولية"، و"منظمة حقوق الإنسان" الأميركية، وغيرها من المنظمات الإنسانية الأخرى، و"لجنة حقوق الإنسان" التابعة للأمم المتحدة، والإعلام العالمي، ودبلوماسية البلدان الديمقراطية.

- 3 -

لنتذكر جميعاً هذه الحقيقة التاريخية المعاصرة، وهي:

أن كل مشكل قومي لا يُحل في الوقت المناسب، يتحوَّل إلى مشكل دولي، لأن الحدود بين الداخل والخارج آخذة في التلاشي، أو هي تلاشت في كثير من مناطق العالم (أوروبا، أميركا، وكندا).

فالسوق الدولية المتدامجة، والعولمة، وثورة الاتصالات، عمّقت التبعية المتبادلة بين جميع الأمم. في حين تعجز النُخب العربية عن حلِّ مشكلاتها المزمنة من "الصحراء الغربية" إلى حرب "جنوب السودان" وإلى مشكلة "الجزر" بين الإمارات وإيران، ولولا التدخل الخارجي، لكان الاحتلال العراقي الآثم، ما زال في الكويت، ولما علَّقت إيران حد الرجم، الذي ذهب ضحيته في العقد الأول للثورة الخمينية 1200 امرأة، بفضل تدخل "الاتحاد الأوروبي"، ولما تنازل شيوخ الأزهر– بفضل ضغوط خارجية قوية- عن اعتراضهم- منذ ثلاثين عاماً- على دمج المرأة في سلك القضاء بحجة أنها "عاطفية"، فلم يعترضوا على تعيين امرأة في مجلس الدولة.

- 4 -

لقد مارست النخبة السياسية التقليدية- دون انقطاع- سياستين انتحاريتين: سياسة النعامة، وسياسة المشي على حافة الهاوية.

الأولى، تتعامى عن رؤية الأخطار الداخلية المحدقة، والمتمثلة بالمشاكل الحقيقية التي تتطلب معالجتها بنجاعة وشجاعة سياسية بعيدة النظر، مثل مشكلة التنمية؛ أي تحديث وترشيد الاقتصاد والتعليم، وقوانين الأحوال الشخصية، ونزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني.

أما الثانية، فتستدعي الأخطار الخارجية القاتلة بتصريحاتها، وقراراتها، وممارساتها الخرقاء، مقدمة بذلك الأسباب والذرائع لإسرائيل تارة، ولأميركا أو غيرها تارة أخرى.

- 5 -

كما أن النخبة الدينية– الفكرية تمارس سياستين انتحاريتين أخريين:

الأولى، بتجاهل تلك المشاكل الحقيقية التي تعامت عنها النخبة السياسية.

والثانية، بإغراق الجمهور عبر وسائل الإعلام التي تحتكرها بالمشاكل البيزنطية الدينية أو الدنيوية كالحجاب، وهجاء العولمة، التي تملأ الآن الإعلام وتشغل الناس.

والسؤال الآن:

هل تستطيع النخبة الحديثة المحدودة عدداً وإمكانات، والمحاصرة إعلامياً أن تسبح ضد هذين التيارين الانتحاريين؟

طبعاً تستطيع، على الرغم من المخاطر التي قد تلامس المجازفة بالحرية، والحياة.

إن سلاح النخبة الحديثة في هذا الصراع السياسي- الفكري هو الفكر النقدي؛ أي توضيح المشاكل التي تطرح نفسها علينا بنقل المسكوت عنه إلى المتناقش فيه.

ومن الجدير بالذكر، أن الفكر النقدي العربي أصيب إزاء التراث الديني– القومي بردة حضارية شاملة، عادت به إلى مواقع كان قد تخطاها منذ زمن بعيد.

- 6 -

من أسباب ما نحن فيه الآن من تخلف يرجع- من بين ما يرجع- إلى انتصار التكفير على التفكير، والنقل على العقل، فأوصلنا إلى ما نحن فيه الآن كـ"آخر أمة أُخرجت للناس". فكيف نقلب المعادلة، بتغليب التفكير على التكفير، والعقل على النقل؟!

لا سبيل لنا إلا بتقليد النخب الحديثة التي انتصرت على نخبها التقليدية، وذلك باستخدام العلوم الإنسانية في نقد تراثها، وصنع قرارها، وتحليل مشكلاتها في إعلامها، وتعليمها، وحياتها الثقافية. فليس مصادفة أن أبا حامد الغزالي (1058-1111م) كفَّر الفلسفة، وأن الحنابلة كفّروا المنطق، وأن المتأسلمين المعاصرون كفَّروا العلوم الإنسانية.

* كاتب أردني

back to top