أميركا في القرن الآسيوي
في موقع مركز التجارة العالمي في مانهاتن السفلي، من المقرر أن يتم شغل مساحتين خاليتين بشلالين، لإحياء ذكرى ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية بطريقة رزينة ومحترمة. وإلى جانب الشلالين يرتفع إلى عنان السماء بكل شموخ برج هائل كاد يكتمل بالفعل من تصميم المهندس المعماري دانيال ليبسكيند، كرمز لانتصار الحياة على قوى الظلام والموت. ولا يتبادر إلى الذهن غير كلمة واحدة تصور الانطباع الذي يتركه هذا المكان الذي شهد جريمة لم يسبق لها مثيل: الصمود.وفي البناية التي ستضم متحفاً تذكاريا، يستطيع الزوار أن يشتروا أسطوانة "دي في دي" تحمل فيلماً بعنوان "التاسع من سبتمبر: من الفوضى إلى الوحدة".
إن موقع بناء برج التجارة العالمي الجديد يشكل الدليل المعماري والبشري على أنه من السابق للأوان، إن لم يكن من الخطورة بمكان، أن نعتبر أميركا بلداً أصبحت قوته في انحدار، على الرغم من المحن الاقتصادية التي تمر بها حاليا، والواقع أن أميركا تمتلك الموارد الأخلاقية والفكرية التي تحتاج إليها للخروج من محنتها.ولكن ما نستطيع أن نعتبره ضرورياً لا يكفي، فلكي تتمكن أميركا من إعادة اختراع نفسها، والتعامل مع انحدارها النسبي على المستوى الدولي، يتعين عليها أن تمضي قدماً نحو إعادة التوازن بين أولوياتها الداخلية والدولية. في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة، انسحبت أميركا المنتصرة من مسؤولياتها العالمية، وكانت العواقب مأساوية بالنسبة إلى ميزان القوى في أوروبا التي تُرِكَت لكي تواجه شياطينها الداخلية وحدها.على النقيض من ذلك، نجحت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية في احتواء الطموحات السوفياتية، ولكن اليوم، وخلافاً لما حدث في عام 1945، لا يواجه الأميركيون خطراً وشيكا، فربما تتكلم روسيا بصوت عال (مستخدمة مقعدها الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كمضخم للصوت)، ولكنها ليست أكثر من جزء ضئيل من الاتحاد السوفياتي. على نحو مماثل، وفي حين أصبحت النزعة القومية لدى الصين، المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، ميالة إلى العدائية في الآونة الأخيرة، فإن الأولوية الواضحة للنظام الشيوعي- بل المفتاح لاستقراره- تتلخص في النمو الاقتصادي المحلي.الواقع أن الخطر الوحيد الواضح الذي تواجهه الولايات المتحدة ينبع من أسلحة الدمار الشامل، التي قد تنتشر أو تستخدمها جماعات إرهابية، ولكن مواجهة هذا التهديد لا يتطلب ميزانية عسكرية ضخمة أو نشر قوات أميركية كبيرة في أنحاء العالم المختلفة. فضلاً عن ذلك فإن أميركا لديها الفرصة المطلوبة للعودة إلى التركيز على نفسها- لاسترداد قوتها الداخلية من دون الانسحاب من العالم. وعلى حد تعبير ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، فإن أميركا لابد أن تدخل في فترة من "ترميم" أساسها.إن السياسة الخارجية الأميركية تبدأ في الداخل، وهذا يعني كبح جماح العجز في الميزانية في الأمد البعيد، وإحياء النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في الأمد القريب، ومعالجة البنية الأساسية المتدهورة للدولة. فقد أصبحت حداثة أميركا التي أصابتها الشيخوخة تمثل عبئاً على قدرتها التنافسية، إلى جانب المهانة التي لحقت بصورتها الدولية والخطر الذي يهدد سلامة مواطنيها. هذا فضلاً عن الإجهاد الإمبراطوري الذي أصابها، فقد تميز التاريخ الأميركي الحديث بدورات متقلبة من الحماس حول المشاركة الأجنبية، ففي منتصف السبعينيات وفي أعقاب حرب فيتنام لجأت أميركا، مسترشدة في ذلك بالحماس المحفز من جانب الرئيس السابق جيمي كارتر، إلى خيار "الأقلمة" في مشاركاتها، ولكن لأن التهديد السوفياتي كان لا يزال قائما، فإن ذلك الجهد جاء في وقت مبكر للغاية (وربما تنفيذه بأسلوب خاطئ).بيد أن نقطة الانطلاق اليوم لإعادة تقييم الأولويات الأميركية أقرب إلى كونها اقتصادية من كونها أخلاقية، ولكن المنطق لا يختلف كثيرا، وذلك لأن نقطة الانطلاق هذه تستند إلى اقتناع مفاده أن المزيد من المشاركة الأميركية في العالم اليوم يعني ضمناً تدخلات أقل تكلفة وارتباكاً في الغد. وهذا يعني أن السياسة الخارجية الأميركية ذاتها- التي اتسمت في الأعوام الأخيرة بقدر كبير من الاهتمام بالشرق الأوسط، وعدم الاهتمام بآسيا إلا قليلا- لابد أن تتبنى تحولاً في الأولويات.بطبيعة الحال، لا تستطيع أميركا أن تتجاهل الشرق الأوسط ببساطة، في خضم الثورات العربية الجارية اليوم، ولا ينبغي لها أن تتخلى عن الأمل على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية، أو عن جهودها الرامية إلى احتواء الطموحات النووية الإيرانية. ولكن التاريخ يتكشف في آسيا- وهناك يتعين على الولايات المتحدة أن تحدد استراتيجيتها العالمية في الأمد البعيد.ولكن هل ينبغي للولايات المتحدة، كما يقترح هنري كيسنجر في كتابه الأخير "عن الصين"، أن تفكر في احتمال إنشاء "مجتمع باسيفيكي"، لا يقوم على الثقافة والقيم المشتركة في مواجهة تهديد مباشر، مثل المجتمع الأطلسي، بل يقوم على المصالح المشتركة في "عصر إعادة التوازن إلى النظام العالمي"؟ولعل صمود أميركا يتناقض مع نقاط الضعف العديدة التي تعانيها أوروبا، ولكن الصمود لن يكون كافيا، إذ يتعين على الولايات المتحدة أن تستعيد سابق عافيتها حتى يتسنى لها مواجهة تحديات الغد، وهذا يعني استعادة النمو الاقتصادية، وخفض العجز، وتحسين البنية الأساسية. ومن عجيب المفارقات هنا أن أميركا التي تتمتع بقدر أعظم من الثقة بنفسها هي تلك التي تتقبل تراجع مكانتها العالمية، لأن حمل النفس على التغيير يصبح أسهل كثيراً بمجرد اتخاذ الخطوات اللازمة للتكيف معه.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للعاطفة».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»