جلست أراقب صديقي طبيب القلب، وهو يدخن بشراهة، إنه ليس أول طبيب أراه في مثل هذه الحالة، فقد رأيت هذا الأمر مرات عدة ومن أطباء في كل الاختصاصات، قال لي قبل أن أبدأ محاضرتي عن مضار التدخين، والتي يعرفها بلا شك أكثر مني: لست بحاجة لتخبرني أن التدخين يسبب السرطان وأمراض القلب، فكل يوم أرى الدليل على ذلك في عنابر المستشفيات وبين مرضاي، وقد شهدت من العمليات الجراحية ما يكفي لأن أدرك الفرق بين الأنسجة الوردية السليمة عند غير المدخنين، والأنسجة الباهتة القذرة للمدخنين!

Ad

سألته: ترى الموت كل يوم بسبب التدخين وتستمر فيه... لماذا؟

قال: أظن أنني مثل كثيرين من مرضاي الذين نصحتهم مرارا بالإقلاع عن التدخين لكنهم لم يفعلوا، إنهم باختصار لا يبالون إن نقصت حياتهم بضع سنوات، أنا وهم، نعرف النتائج المدمرة تماما، ومع ذلك، لا نكترث، كل إنسان يموت في يومه!

لم أجد ردا مناسبا، ماذا أقول لهذا الرجل، ماذا أقول لعالم اختار أن يعيش عيشة الجاهل وقبل بنتائجها، ماذا أقول لمن أدرك أن الطريق الذي يمشي فيه هو طريق الهلاك، ومع ذلك استمر بالسير فيه، ماذا أضيف لمعرفته، وقد تجاهلها ورضي أن يكون غافلا؟ ماذا أقول له فهو وباقي مرضاه لم يعودوا يكترثون بنفاد مخزونهم من سنيّ العمر؟!

صمت، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: ترى ما المرض الأكثر خطرا هنا، التدخين أم اللامبالاة بالحياة والانتقاص من قيمتها؟ الجهل بالخطر، أم معرفته وعدم الاكتراث له؟ المشكلة، أم السبب الذي يؤدي إليها؟!

ما حدث مع صديقي الطبيب ومرضاه كأفراد، يحصل اليوم في الكويت كمجتمع، هناك حالة لامبالاة واضحة سوف تهوي بنا نحو الحضيض إن لم نتداركها ونتخلص منها سريعا، حالة اختص بها علية القوم ممن بيدهم النهوض بهذا البلد وانتشاله من حالة الجمود والتخلف والتأخر عن الركب.

بعد قبول استقالة مجلس الوزراء وحل مجلس الأمة، صرت كل ليلة أسهر مع النواب والوزراء السابقين على شاشة التلفزيون، أستمع إليهم وأشعر بأنهم جميعا يعرفون أين تكمن العلل وما علاجها، كلهم بلا استثناء يحللون الأوضاع في البلاد تحليل العارف بالأمور، أشاهدهم وأتساءل: ما دام لدينا كل هذا الكم الهائل من "الناس الفاهمة" فما سبب التردي الحكومي النيابي طوال الفترة السابقة؟ ولماذا لم تنفعنا هذه الفهامية وجاءت نتائجها سلبية على الدوام؟ فلا أجد جوابا سوى: نعم، هم يعرفون... لكنهم لا يبالون!

فهم لا يختلفون في شيء عن طبيب القلب ومرضاه الذين يعرفون أنهم مقبلون على الخطر والهلاك، لكنهم يتوجهون إليه غير مبالين بما سيخسرونه من سنوات أعمارهم، بينما يعلم "فلتات السياسة" لدينا أن صراعاتهم ونزاعاتهم المستمرة ستجعل أبناءنا وأحفادنا يدفعون الثمن باهظا من مستقبلهم، ومع ذلك لا يبالون ولا يكترثون، فمشكلتنا ليست الجهل، مشكلتنا أن المعرفة تلبس قناع الجهل بكامل رضاها!

قبل أيام شاهدت فيلما خياليا اسمه "in time" يصور لنا العالم بعد عقود حين يختفي المال ويصبح الوقت هو العملة المتداولة، حيث بإمكانك شراء أي شيء بالدقائق والساعات والأيام والسنين، الرصيد الوقتي يظهر على ساعد كل شخص، ومن يستنفد رصيده يموت فورا، وقد تخصص بعض الأشرار بسرقة أعمار الناس من أجل أن يعيشوا مدة أطول على حساب غيرهم!

ما أراه وأشاهده هذه الأيام، هو تجسيد فعلي لما حدث في الفيلم، فهناك من يسرق الرصيد الوقتي لهذا الوطن كل يوم، هناك من يستنزف ما تبقى لنا من مستقبل بلا مبالاة وعدم اكتراث، وهم يقومون بهذا عن وعي وإدراك لا عن جهل وغفالة، ومستمرون بذلك إلى ما لا نهاية، أو إلى نهاية!

فهل سنوقفهم عند حدهم قريبا حين تكون لنا الكلمة، هل سنحسن الاختيار ونعزل سراق وقتنا ووقت وطننا، أم أننا مثلهم، لا نبالي، ولا نكترث، إن كان هذا الوطن طويل عمر أو كما يريدون... قصير عمر؟!