يطرح بعض المفكرين الإسلاميين طرحاً جديداً وجريئاً في ما يتعلق بمفهوم الحرية وأهميتها، فعلى سبيل المثال يرد الدكتور أحمد الأحمري (في مقابلة تلفزيونية) على سؤال «ما الذي سيحدث في المجتمع إذا غابت الحرية؟» بأنه إذا غابت «تفسد أخلاق الإنسان، والمجتمع الذي تسيطر فيه العبودية تفسد أخلاقه وتسيطر عليه لغة النفاق... وبغيابها يزيد الفساد المالي، وتسيطر الحكومات وتصبح بديلاً عن الله، أيضاً يفقد المجتمع المبادرات، إذ لا يصبح عنده أية همة في عمل شيء لأنه مقهور».

Ad

وهي ذات المفاهيم التي تحدَّث عنها العلامة الكواكبي قبل أكثر من مئة عام في قوله: «أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من الشهادة على ذي شر».

وهي نفس نظرية «المجتمع المفتوح» لفيلسوف القرن العشرين كارل بوبر التي طُبِّقت بشكل كبير في الغرب (رغم بعض النواقص هنا وهناك)، وهي الفلسفة التي أعلت شأن الحرية الفردية وأهميتها في تحوُّل المجتمعات البدائية الطفولية إلى مجتمعات راشدة ناضجة، أي تحولها من مجتمعات مغلقة إلى مجتمعات مفتوحة، يكون فيها التسامح والتفكير النقدي أهم قيمها الأخلاقية، وهي وقودها ومحركها الأساسي، إذ تخضع السياسات والأفكار للمساءلة والمراجعة والتصحيح. لقد استطاعت تلك المجتمعات، بعد صراع دموي طاحن أن يتعايش فيها مختلف الأطياف والأعراق والأديان بكرامة وسلام، بعد أن حطمت السلاسل الصدئة والقيود المكبِّلة للعقول، فلم تستقر تلك المجتمعات وتنطلق إلا حين تحولت مستنقعاتها الآسنة العفنة إلى أنهار جارية متجددة، أي تحولت من المجتمعات المغلقة الساكنة المتضعضعة إلى مجتمعات مفتوحة متحركة تتحمل وتمتص كل أنواع الاختلاف والتنوع؛ فالصراع في المجتمعات المفتوحة هو صراع فكري إيجابي يبني المجتمعات ويطورها ويعمل على استقرارها، أما المجتمعات المغلقة فالصراع فيها قبلي طائفي يدمر المجتمعات وينهكها ويهدد بقاءها.

إن المجتمعات الأكثر انغلاقاً هي المجتمعات الأقل أخلاقاً، لأنها مجتمعات تسلطية (وإن حكمها استبداد الأغلبية) تحمل بذور الإلغاء والعنف في أحشائها، وتكبلها الأغلال والقيود وترتطم فيها العقول بسقفها «الواطي» وجدرانها الضيقة، فتشل حركتها ويزيف وعيها بوسائل الإكراه والتخويف، لينتشر فيها الرياء والكذب والنفاق، فيفسد الهواء ويتلوث الفضاء، تلك هي أخلاقيات العبودية التي تجعل من الأوطان سجوناً كبيرة، يشعر فيها الحر بالغربة ويشعر فيها صاحب الضمير بالانفصام والازدواجية.

لقد نجحت أنظمتنا السياسية والاجتماعية والثقافية البدائية نجاحاً باهراً في إغلاق المجتمع نتيجة خنقها لأنفاس «الحرية الفردية» حتى الموت، فعاشت فيها القيم العشائرية والقبلية والعنصرية وعشعشت حتى ذاب فيها الفرد، فذبل عقله وضمر وعجز عن التفكير الاستقلالي بعيداً عن عقلية الوصايا والتبعية التي أعاقت نموه وعطلت تطوره وبلوغه سن الرشد والنضج. وحيث تغيب الحرية الفردية تغيب حرية الضمير وحق الاختيار الحر دون خوف أو نفاق.

وعلى الرغم من كثرة تنظير وُعاظنا للأخلاق المطلقة، فإننا فشلنا فشلاً ذريعاً في تأسيس وعي أخلاقي يرتكز على قيمة الإنسان وحقوقه... يقول المفكر الإسلامي الدكتور إبراهيم البليهي: «إن الغرب قد امتاز في أخلاقه البانية، ولولا ذلك لما حقق هذا الازدهار العظيم. وقد ترسَّخَتْ في أذهاننا صورة شائهة عن الغربيين، لذلك فإننا حين نذهب إلى بلدانهم لا نرى إلا ما يتفق مع الصورة الراسخة في أذهاننا عنهم، فنركز على الجانب الهامشي السيئ عندهم، ونتجاهل كل الجوانب الجوهرية الإيجابية المضيئة» لذلك نحن لا نرى في الغرب كما يعبر د. البليهي إلا «صندوق زبالة في قصر فخم».