ثمة ظاهرة تستفحل في مصر راهناً يمكن تسميتها بـ«أعلمة الثورة»، حيث يحرص بعض الثوار، أو المحسوبين عليهم، على البقاء تحت أضواء الإعلام، حتى لو كان الثمن اتخاذ مواقف غير تلك التي يجب أن تتخذ، وإن هذا الأمر يسحب بعض الثوار إلى اصطناع المواقف وتبني الآراء المختلفة والمتشددة، ويعزز سلوك المزايدة، ويصيب الجمهور بالملل وفقدان الثقة.

Ad

في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، برز اسم تنظيم "طلائع الفتح"، الذي شكلته مجموعة منشقة عن جماعة "الجهاد"؛ وهو التنظيم الذي قام ببعض العمليات المهمة في مصر، قبل أن يُقبض على أهم قياداته، ويتقلص، إلى أقصى درجة، نشاطه الفعلي وتأثيره السياسي.

لكن تقلص نشاط "طلائع الفتح" بفعل الضربات الأمنية القوية أو عدم امتلاكه القدرة على العمل الميداني النشط، لم يحل أبداً دون شهرته وانتشاره ورواج اسمه؛ إذ كان يمتلك قدرة على النفاذ عبر الإعلام، من خلال صياغة البيانات النارية، التي تعكس مواقف حدية عنيفة، وإرسالها إلى معظم وسائل الإعلام المعنية، في وقت مناسب.

لم أعد اليوم أذكر عن "طلائع الفتح" سوى أنه كان تنظيماً يجيد استخدام وسائل الإعلام لتعزيز صورته، رغم تراجع وجوده الفعلي وغيابه عن موضع الأحداث، كما لا أنسى أبداً أن زملاء صحفيين اختاروا أن يطلقوا عليه اسم "طلائع الفاكس"، في إشارة موحية إلى قدرته الملحوظة على صياغة البيانات، وإرسالها بالفاكس، ليضمن دخول الأخبار.

كان دخول الأخبار صنعة لا يتقنها كثيرون، حينما كانت السوق الإعلامية ضيقة، وعدد وسائل الإعلام محدوداً، والقيود المفروضة عليها كبيرة، لكن انفتاح السوق بشدة، وزيادة الطلب على "أنشطة الميادين"، وارتفاع حدة المنافسة، جعل دخول الأخبار حرفة سهلة يتقنها الجميع تقريباً.

يعني دخول الأخبار أن تنجح في أن تصبح خبراً، أو أن يتم إلقاء الضوء على موقفك أو رأيك أو نشاطك، باعتباره عاملاً مهماً لاستيفاء القصص التي تقدمها وسائل الإعلام للجمهور.

ولعلك تساءلت يوماً: "لماذا يصطحب هذا البرلماني المحترم زوجته وبناته للوقوف معه على رصيف مجلس الشعب، رافعين لافتات للتأكيد على موقف سياسي معين؟"، و"لماذا يصر بعض المتظاهرين أو المطالبين بمطالب فئوية محددة على قطع الطرق أو الخروج في مسيرات تسد الشوارع وتعطل الأعمال؟"... إنهم جميعاً يسعون إلى دخول الأخبار، أو البقاء فيها.

تفسر ظاهرة "دخول الأخبار" اتجاه الكثيرين من أصحاب المطالب والمواقف، منذ اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، إلى التظاهر والاعتصام أمام مبنى "ماسبيرو" حيث التلفزيون والإذاعة الرسميين. ولا شك أن بعض هؤلاء كان يقصد تحدي سلطة الحكم وإدانة سيطرتها على وسائل الإعلام العامة أو انحراف تلك الوسائل نفسها عن العمل النزيه الموضوعي، لكن لا شك أيضاً أن بعض المتظاهرين والمعتصمين أراد من توجهه إلى "ماسبيرو" دخول الأخبار من بابها، أو على الأقل الذهاب إلى الأخبار عوضا عن انتظار قدومها إليه.

كنت في مكتبة الإسكندرية، ألقى محاضرة على بعض الشباب النابهين والناشطين سياسياً، حين عاتبت عدداً منهم لأنهم "تركوا ساحة سعد زغلول، وتوجهوا إلى المنطقة الشمالية العسكرية، وسمحوا بإلقاء الحجارة عليها، وهو أمر من الممكن أن يضغط على الجيش، فيغري به، أو يهز تماسكه، أو يستدرجه إلى صدام دموي مع الثورة". لكن أحدهم عاجلني بإجابة صادمة ومباغتة؛ إذ قال: "لو لم نفعل ذلك لما أحس أحد بنا ولا استمع لطلباتنا... لم تأت وسائل الإعلام إلينا إلا حينما ذهبنا هناك".

لم يكن الثوار المصريون في الفترة الذهبية للثورة، التي استمرت من 25 يناير حتى 11 فبراير الماضيين، بحاجة للبحث عن الإعلاميين أو استدعاء الإعلام؛ إذ كان الإعلام يبحث عنهم، لأنهم كانوا يصنعون القصص الجديرة بكل اهتمام، بل كانوا يسطرون تاريخاً مجيداً.

لكن الأضواء المكثفة التي ألقيت على بعضهم كانت مبهرة بدرجة جعلت من الصعب الانسحاب منها أو العيش من دونها، وهو أمر عزز لدى هؤلاء الطلب على البقاء في الإعلام.

شيء من هذا القبيل حصل في جمعة "لا للطوارئ" أول أمس الجمعة، التي دعا إليها أكثر من 30 حركة وائتلافاً، نشرت مئات الآلاف من الكلمات في العديد من وسائل الإعلام، لكنها لم تستطع حشد سوى بضعة آلاف في الميدان.

كانت الأخبار على مدى الأيام القليلة الماضية تتمحور حول جمعة "لا للطوارئ"، وكان الإعلاميون يسعون إلى التعرف إلى موقف كل فصيل من تلك الجمعة، وهو الأمر الذي استلزم أن يكون لدى كل فريق ما يصرح به، على أن يكون مختلفاً، أو جذاباً، أو أكثر حدة مما يقوله الآخرون.

وقد ارتفعت حدة التصريحات، وزاد عدد التنظيمات والائتلافات، وتم التعبير عن المواقف بشدة، لكن الزخم كان ضعيفاً على الأرض؛ إذ لم يهتم الثوار الداعون إلى الجمعة ببناء التوافق عليها والحشد لها، فجاءت باهتة، لتترك أثراً أسوأ من هذا الذي كان يمكن أن تتركه في حال تم التغاضي عن الدعوة إليها. شيء من هذا القبيل يحصل باستمرار من قبل بعض من شاركوا في الثورة المصرية منذ اندلاعها، أو التحقوا بركبها عقب تأكدهم من فرص نجاحها، حيث يصر هؤلاء على اتخاذ المواقف الحدية والمتباينة، ليضمنوا وجودهم الدائم بالأخبار، بل إن بعضهم لم يكتف بالوجود الدائم في الإعلام كـ"مصدر" أو "ضيف"، فتحول إلى مقدم برامج بالكامل، ليضمن الوجود الدوري المدفوع المقنن.

يستدعي هذا السلوك ظاهرة تعرفها وسائل الإعلام في الديمقراطيات الهشة والبلدان المضطربة، وهي الظاهرة التي يمكن تسميتها بـ"أعلمة السياسات"، حيث تتخذ الأطراف؛ سواء كانت جماعات أو هيئات أو أفراداً، مواقف معينة، معظمها حاد وشديد التباين، لمجرد دخول الأخبار والبقاء تحت أضواء الإعلام، حتى لو كانت تلك المواقف تتعارض مع المصلحة العامة أو المنطق، حيث يكون الإعلام هدفاً في حد ذاته، لا مجرد وسيلة لبلوغ الغايات السامية.

ثمة ظاهرة تستفحل في مصر راهناً يمكن تسميتها بـ"أعلمة الثورة"، حيث يحرص بعض الثوار، أو المحسوبين عليهم، على البقاء تحت أضواء الإعلام، حتى لو كان الثمن اتخاذ مواقف غير تلك التي يجب أن تتخذ.

إن هذا الأمر يسحب بعض الثوار إلى اصطناع المواقف وتبني الآراء المختلفة والمتشددة، ويعزز سلوك المزايدة، ويصيب الجمهور بالملل وفقدان الثقة، ويلقي بظلال من الريبة على كثير من المواقف الثورية، التي يجب أن تظل نبيلة خالصة، بما يليق بثورة 25 يناير والذين فجروها بكثير من التضحيات والإيثار والتواضع والحكمة.

* كاتب مصري