سلفيون في البرلمان
كنت خارج مصر عندما اتصل بي أحد معدي برامج "التوك شو" الشهيرة، ليخبرني بضرورة الإدلاء برأيي عبر مداخلة هاتفية في موضوع مهم يخص اقتراحاً تم تقديمه في مجلس الشعب المصري. سعدت جداً بهذه المكالمة لأنني توقعت على الفور أن مجلس الشعب، الذي مضى على انعقاد جلسته الأولى نحو 40 يوماً، ربما يكون قد التفت إلى ضرورة تقديم مشروع لتنظيم العمل الإعلامي، في ظل الشكاوى المتكررة من "انفلاتات الإعلام" من جهة، والهجمات المتتالية على حرية الإعلام سواء من السلطة أو أصحاب رأس المال من جهة أخرى. لكن المذيع اللامع الذي أدار معي المداخلة فاجأني بسؤال مباغت لم أكن جاهزاً للإجابة عنه، لأنه لم يخطر ببالي أبداً أن يكون إحدى الأولويات التي تشغلنا الآن؛ فقد أبلغني المذيع بأن "نائباً سلفياً طالب بحجب المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت"، متسائلاً عن رأيي في هذه المطالبة.جميل جداً أن يكون عالمنا بلا مواقع إباحية بالطبع، وجميل جداً أن يطالب النواب السلفيون، المستجدون على العمل البرلماني، كل يوم بمطالب جديدة، لكن الإشكال يكمن في أن معظم تلك الطلبات لا يطال الأولويات المهمة والحيوية التي انتخبهم الجمهور من أجل تحقيقها.
دفعني هذا السؤال، وهذا المطلب إلى استعراض تجربة النواب السلفيين في البرلمان على مدى الفترة الزمنية القصيرة السابقة، فلجأت إلى حيلة سهلة ومعروفة؛ وكتبت على موقع البحث الشهير "غوغل" عبارة: "نائب سلفي يطالب..."، لأجد عشرات الآلاف من النتائج... فعن ماذا كانت؟أحدث تلك النتائج كانت تشير إلى خبر عنوانه "نائب سلفي يطالب بحجب موقع (فيس بوك) لنشره مواد تسيء للرسول الكريم"، والغريب أن هذه المطالبة وردت في بيان قدمه النائب للجنة الشؤون الدينية بخصوص أزمة حدثت من ناشط سعودي، عاقبته عليها سلطات بلاده.نتيجة أخرى أشارت إلى "نائب سلفي يطالب بإلغاء تدريس اللغة الإنكليزية في مدارسنا"، مضيفاً أن تدريس تلك اللغة يكشف عن "مخطط خارجي ضد بلادنا"، وقد تساءل هذا النائب الموقر في طلبه مستنكراً: "لماذا ندرس لغات الكفر لأولادنا؟". تعد تلك المطالبة مثالاً واضحاً على درجة الوعي السياسي الذي ينطوي عليه هذا النائب، كما تشير أيضاً إلى فهمه لطبيعة دوره في "البرلمان" ومسؤولياته تجاه الجمهور الذي انتخبه، وهي بالطبع تشي عن كارثة يمكن أن تأخذنا إليها اتجاهات التصويت الحالية في الانتخابات العامة، وإن كان يقلل من أثرها الفادح تدخل أحد قيادات حزب "النور" السلفي لاحقاً للتقليل من تداعيات الأمر عبر "اعتذار مبطن" عما طالب به النائب.نائب سلفي آخر طالب محافظ الدقهلية بـ"قتل البلطجية المنتشرين في بحيرة المنزلة"، وزميل له طالب بـ"وضع ضوابط لأي تطاول على أحد من الأنبياء، وتطبيق حد الردة عليه في أي مكان بقتله، ليكون عبرة للآخرين".ليست كل المطالبات من هذا النوع الحاد بالطبع، ولكن بعضها اتخذ منحى سياسياً مثل مطالبة أحد النواب السلفيين بتطبيق قانون العزل على "أقارب سوزان مبارك"، ومطالبة زميل له بـ"الكشف عن فاتورة علاج الرئيس المخلوع في المستشفى الذي يقيم فيه"، في وقت طالب زميل ثالث لهما بـ"تطهير المجلس من النواب الخونة". لكن ثمة نوابا سلفيين آخرين كرسوا طلباتهم لمسائل تتعلق بالبعد الديني المباشر؛ مثل ذلك النائب الذي طالب بـ"توسعة مسجد مجلس الشعب، ورفع الجلسات خلال وقت الصلاة". لا يختلف هذا النائب بالطبع عن زميله الآخر الذي فاجأ المجلس والجمهور والعالم، الذي يراقب أول برلمان في مصر بعد ثورة مجيدة مبهرة، بمقاطعته أعمال المجلس برفع الآذان. وليس هذا بعيداً أيضاً عن النواب المحترمين الذين أضافوا إلى القسم القانوني، الذي لا تتم صحة إجراءات العضوية إلا به، عبارة "بما لا يخالف شرع الله". إنها أزمة حقيقية أن يضع الجمهور الطيب ثقته في مرشحين يبدو أنهم فعلاً مخلصون، لكنهم للأسف يفتقدون الوعي السياسي اللازم، أو الإدراك المطلوب للأولويات الراهنة، فيستنزفون طاقتهم وطاقة المجلس التشريعي والجمهور والإعلام بتلك المسائل في هذا التوقيت بالذات. لدى المصريين في فترة انتقالهم الديمقراطي الحرجة مشكلات ضخمة ومتنوعة، وهم لا يمتلكون أي سلطة ذات شرعية كاملة غير مطعون فيها سوى السلطة التشريعية؛ فهي الوحيدة التي أتت حتى هذه اللحظة عبر انتخابات شهدت مشاركة واسعة، ولذلك فإن أملهم كبير في نواب الشعب ليتوصلوا إلى حلول لتلك المشكلات المتفاقمة.لا يتعلق الأمر بنواب الأحزاب السلفية فقط بالطبع، فثمة عوار وخلل كبيران في أداء النواب "الإخوان" و"الليبراليين"، الذين فشلوا حتى هذه اللحظة في انتهاج الطريق الصحيح إزاء مشكلات الانفلات الأمني، وتمويل المنظمات الأجنبية، والإعلام، وقانون انتخابات الرئاسة، وصلاحية حكومة الجنزوري.لكن ما يجعل الأمر ملحاً في حالة النواب السلفيين أنهم أمعنوا في الطريقة ذاتها التي جلبت عليهم انتقادات مريرة، حتى إن إحدى نتائج البحث على محرك "غوغل" عن أدائهم أنتجت العبارة التالية: "نائب سلفي يطالب بتغيير اسم الطريق الدائري إلى الطريق المستقيم".إنها بالطبع نكتة، لكنها نكتة مريرة لا نريد لها أن تتحول حقيقة، ولن يحدث ذلك إلا إذا تفهمنا نحن الإطار الثقافي الذي يحكم نوابنا السلفيين، وإذا تفهموا هم أن شعبهم مؤمن يقدر الدين ويصونه ويضعه في أعلى المراتب، وكل ما يريده منهم، في هذه المرحلة، أن يساعدوه على توفير الوظائف والخبز والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الوطنية.لا يوجد هذا النوع من النواب المحترمين في مصر فقط، بل إنه يظهر أيضاً في الأردن والكويت وغزة وغيرها من المجتمعات العربية، حيث يمكنك أن ترصد نواباً مخلصين لأفكارهم ومعتقداتهم، لكنهم لا يستطيعون ترتيب الأولويات الوطنية ترتيباً منطقياً. لا أعتقد أن الإشكال الذي تعانيه المجتمعات العربية الآن يتعلق بالمظاهر الشكلية للتدين، ولا أعتقد أن تلك المجتمعات لا تحفل بالعشرات، بل بالمئات، من القضايا التي تنتظر اقتراباً جاداً فعالاً من قبل ممثليها الشرعيين المنتخبين، لكن إصراراً واضحاً لدى بعض هؤلاء يحرفهم عن الاستجابة المرضية للتحديات الأساسية.يبدو أن المزاج العام لدى الجمهور العربي يتجه في تلك الفترة الحساسة إلى انتخاب الإسلاميين في معظم الانتخابات سواء كانت سياسية أو غير سياسية، ويبدو أن هؤلاء باتوا على المحك في اختبار حقيقي وجذري، فإما أن يثبتوا أنهم جديرون بتمثيل شعوبهم، وإما أن يستنزفوا طاقة تلك الشعوب ومعها فرصتهم في الاحتفاظ بمقاعدهم ومستقبلهم في العمل السياسي.* كاتب مصري