ختمت مقالتي السابقة "أسمى المبادئ وأسوأ الأوضاع" بتساؤل: هل من تفسير لهذا التناقض بين سمو تعاليم الإسلام وتردي أوضاع المسلمين؟! هذا التناقض الذي شكل قلقاً مزمناً لكبار كتابنا المهمومين بمعضلة التنمية والتقدم، منهم المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري الذي ألقى محاضرة بعنوان "أفضل المبادئ وأسوأ الأوضاع" بنادي الخريجين في البحرين أكتوبر 98 يرد فيها على محاضرة لفضيلة الشيخ القرضاوي ألقاها بنفس النادي قبل شهور، وحشد فيها مجموعة من النصوص الدينية وحوادث تاريخية، وانتهى إلى "أن التسامح اختراع إسلامي". لا يخالف الأنصاري في مثالية المبادئ إلا أنه تساءل: أين الواقع التاريخي للمسلمين منها؟! ولماذا لم تتجسد في سلوكياتهم وعلاقاتهم؟ ولماذا لم تتشربها الأرض العربية وأصبحت الغلبة للتقاليد والأعراف القبلية؟ هذه التساؤلات أغفلها الشيخ القرضاوي في تركيزه على المبادئ وعلى حوادث فردية للتسامح، ومن هنا ينتقد الأنصاري هذا المسلك الذي ينهجه الشيخ القرضاوي وبعض الخطباء والوعاظ للتدليل على سبق المسلمين إلى التسامح والعدالة والمساواة عبر حشد النصوص الدينية.
ويتساءل الأنصاري: هل المسلمون في شك من صحة وسلامة هذه المبادئ؟! القضية ليست في المبادئ والقيم إنما في الواقع المعاش الذي يثبت أن المسلمين لم يعيشوا هذه المبادئ من بعد الراشدين إلى يومنا عدا سنتين ونصف من حكم عمر بن عبدالعزيز الذي قتل مسموماً!غابت "الشورى" عن دنيا المسلمين ليحل محلها "الملك العضوض"، وغابت "المساواة" وحلت محلها "اللا مساواة" التي أصبحت القاعدة، وقسمت المجتمع الإسلامي إلى 10 طبقات اجتماعية متفاوته، أما "التسامح" الذي عرفه المسلمون على يد قادتهم في الصدر الأول مع أصحاب الديانات الأخرى فقد انقلب إلى صنوف من التمييز والإذلال، مسطرة في الكتب الفقهية، ومن أشهرها "أحكام أهل الذمة" لابن القيم الذي ينسب إلى عمر رضي الله عنه شروطاً مهينة لأهل الذمة وعمر وتعاليم الإسلام منها براء.أما "اللا تسامح السياسي" بين المسلمين أنفسهم فحديث لا ينتهي عبر قرون متطاولة من المظالم والقهر والإذلال والتعذيب لكل من وقف في وجه السلطة الظالمة، أو أصدر فتوى ضدها، أو رفض مجرد التعاون معها! كم من عالم اضطهد وكم من مفكر قطع رأسه!ينتقد الأنصاري "المنهج الانتقائي" للخطباء والوعاظ الذين يعمدون إلى انتقاء نماذج تاريخية فردية متألقة للاستدلال بها على التسامح والمساواة والعدل بين المسلمين، لكنهم يتجاهلون تاريخاً طويلاً من القمع والاستبداد والقهر واللا تسامح، فيبرزون "لحظات مضيئة" في التاريخ، ويتغافلون تاريخاً من الصراعات الدموية على السلطة وقمع المعارضين وتعذيبهم، ويتجاهلون الانقسامات الطائفية والصراعات المذهبية والكراهيات المتبادلة والتعصبات الذميمة.حتى أن "أشهب"، وهو فقيه مالكي، خشى على مذهب مالك في مصر فقال: اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك! وهذا غير الدويلات المتحاربة باستمرار وسلسلة الخلافات القهرية المتصارعة!فكانت ثقافة "الإقصاء والتهميش" هي السائدة على مر التاريخ الإسلامي، سياسة ممارسة من قبل كل قبيلة متغلبة ضد الطوائف الأخرى، وكانت العصبية القبلية هي الحاكمة للقرار السياسي والمهيمنة على مفاصل الدولة، وتشيع النظرة الدونية لغيرها من الرعية. "زهير كتبي: مفاسد الحكم العربي".والمشكلة أننا مازلنا نحشو ذهن الطفل بأوهام الماضي الزاهر ومآثر السلف الصالح وفق منهج انتقائي يغيب فيه ألف عام من الظلام وانتهاك الكرامات وإذلال الشعوب! ندرسه مقولة هارون الرشيد للسحابة: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك!"، تباهياً باتساع الإمبراطورية الإسلامية، ولكن لا نقول لهذا الطفل: إن هذا الخراج الكبير جاء على حساب الشعوب الأخرى، وإن الخليفة المسلم كان ينفقه على ملذاته وجواريه وقصوره وبطانته وكماله الخاص من غير حسيب أو رقيب!سيادة "المنهج الانتقائي" وغياب "المنهج النقدي" في مدارسنا ومنابرنا وفضائياتنا، أضعف مناعة المجتمع في مواجهة آفات الاستبداد والتعصب والتطرف، وأورث شبابنا استعلاءً كاذباً على الآخرين، وخلق عقلية ماضوية ترى أن مستقبلها ماضيها المجيد، كما خرّج طلاباً غير مؤهلين للتعايش مع مجتمعاتهم وغير متصالحين مع عصرهم وعالة على الآخرين!ومن أجل ردم الهوة بين مثالية التنظير وفقر التدبير علينا تجاوز المنهج الانتقائي، ومقاربة الواقع كما هو معرفياً وعلمياً، وأول شروط ذلك اختراق التاريخ كله بخيره وشره وكما حدث، أما التركيز على حوادث جزئية كنماذج استشهادية مضيئة للتسامح والعدل والحرية مع تجاهل الحوادث المناقضة فخطأ معرفي وتربوي وتاريخي بل أخلاقي.فهذه الحوادث هي نماذج فردية وجزئية لا تشكل قاعدة عامة يسير عليها المجتمع، بل هي استثناءات في مجرى الحياة العامة وفي مسار التاريخ الإسلامي، وليس من الأمانة التاريخية إبرازها وتجاهل ما يناقضها! إن هذه الأمانة تفرض علينا في مقابل عرض النماذج المشرقة في تاريخنا أن نعرض نماذج أخرى بلغت من الوحشية منتهاها، لا لشيء إلا للعظة والاعتبار وتحصين الشباب والمجتمع.من تلك النماذج الشنيعة ما يذكره المفكر السعودي إبراهيم البليهي عن مذبحة آل الرسول المروعة، والتي نمر عليها كحدث عابر ومبرر! رغم أن القتلة لم يكتفوا بالذبح المهين إنما داسوا الجثث الطاهرة بالخيل إمعاناً في الإذلال والانتقام، ونخزوا الجثث الكريمة بالخناجر والسيوف تعبيراً عن الحقد والكره، وقطعوا رأس الحسين وطافوا به الأمصار كما يطاف بأعتى المجرمين، ولم يفعلوا ذلك جهلاً إنما معرفة وتعمداً بدليل افتخار القاتل قائلاً:«أملأ ركابي فضة وذهباً...أنا قتلت السيد المحجباقتلت خير الناس أماً وأباوخيرهم إذ ينسبون نسبا»هكذا قبحه الله يعلن بكل دناءة ووقاحة أنه من أجل المال قتل خير الناس أماً وأباً!وتجرأ الأمويون على ما لم يتجرأ عليه عرب الجاهلية على شدتهم وقسوتهم، فقصفوا الكعبة بالمنجنيق، وصلبوا ابن الزبير وعلقوه أياماً! واستباحوا المدينة في وقعة الحرة وقتلوا خلقاً كثيرا! وهل أتاك نبأ الحجاج وفظائعه؟! وأن كل وحشية النظم الاستبدادية اليوم لا تقارن بوحشية الحجاج تجاه خصومه! فاضطهد الأئمة الأربعة الكبار إذ مات الإمام الأعظم بالسجن لرفضه القضاء وضرب مالك بالسياط وخلعت كتفاه لأنه أفتى "ليس على مستكره طلاق"، وتعرض ابن حنبل لمحنة عسيرة لأنه خالف رأي الخليفة!وماذا عن قتل المفكرين والكتّاب الذين جهروا بكلمة الحق عند سلطان جائر؟! لقد عرف تاريخنا صنوفاً من التعذيب غير معروفة في عصرنا، إنه القتل على الخازوق! والسفاح مؤسس الدولة العباسية أكل طعامه متلذذاً على بسط مدت فوق جثث 70 أسيراً أموياً قطعت رؤوسهم، ومعه بنو العباس جلسوا يأكلون على وقع موسيقى أنين المحتضرين! "سليمان فياض: الوجه الآخر للخلافة".تاريخ من الظلمات، ويأتي فضيلة الشيخ القرضاوي ليقول للسائل الذي سأله عقب محاضرته عن أسباب اللا تسامح العنيف في التاريخ الإسلامي: أنت تنظر إلى المسألة بنظارة سوداء! من حق السائل أن يرد على الشيخ القرضاوي ويقول له: وأنت تنظر إلى المسألة بنظارة وردية تمني المؤمنين بجنة المثاليات بينما هم يعيشون جحيم الواقع، كما يقول مفكرنا محمد جابر الأنصاري متعجباً!* كاتب قطري
مقالات
التسامح بين مثالية التنظير وفقر الممارسة والتدبير!
29-08-2011