هناك رسامون قلة، مأخوذون بموضوعة واحدة لا يحيدون عنها، إنهم ينبشون تربتها دون كلل، يشكلون مداراً حول محور ثابت، أذكر منهم الإيطالي موراندي (1890-1964) مع قنانيه الزجاجية، وفخارياته التي لا تنتهي هيئاتها في لوحاته الساكنة الحميمة. والفرنسي أدغار ديغاز (يُلفظ دوغا بالفرنسي) (1834-1917)، الذي يسبقه بنصف قرن، مع راقصات الباليه، صغيرات السن، اللاتي ظل يلاحقهن بالرسم حتى قرابة فقدان البصر في شيخوخته. وإذا كان الإيطالي بالغ السكينة مع طبيعته الصامتة، فإن الفرنسي بالغ الحركة.
في قاعات الأكاديمية الملكية معرض موسع لأعمال هذا الأخير، المكرسة لراقصات الباليه، في حقول الرسم، التخطيط والنحت. ولأن ديغاز معني بالقبض على عنصر الحركة فيرسمه، ومنتفع من فن الفوتوغراف، الذي كان حديث العهد، فإن هذا المعرض يشبه، عبر قاعاته العشر، دورة دراسية في «الحركة» داخل عملية الإبداع البصري التشكيلي والفوتوغرافي. كان ديغاز يقول إن مشاهد الباليه في لوحاته ليست إلا ذريعة لوصف الحركة. وهو صادق في هذا، لأن اللوحات والتخطيطات والمنحوتات القليلة لراقصات البالية لا تنصرف إلى حلاوة أشكالهن، ولا إلى نوازع حسية تفجرها الأجساد الأنثوية...الخ. بل على العكس، فقد تجد عشوائية في بعض الحركات، وقد تجد قبحاً في كثير من الوجوه. مرةً سألته سيدة عن نزعة التقبيح هذه فأجابها: «لكن النساء قبيحات، سيدتي». وبذلك يبدو هذا الانصراف لرسم الإناث محيراً، أو أنه يعزز فكرة توجهه لرصد ورسم «الحركة» فيهن، فهن في هذا لسن أكثر من وسيلة. ولد ديغاز من عائلة باريسية غنية مولعة بالموسيقى، كثيرة التردد على دار الأوبرا. ولأن الأوبرا الفرنسية عادة ما تتزيّن بمقاطع للباليه فقد وجد الفنان منطلقاً لولعه. ومع الأيام أُتيح له أن يدخل كواليس المسرح الخلفية ليضع تخطيطات، ومن ثم لوحات للراقصات في تدريباتهن واستراحتهن. في مرحلة شبابه الناشط صار فن الفوتو مألوفاً. وصور الراقصات متوافرة، إلا أن ديغاز لم يستجب إلا في فترة متأخرة، بالرغم من وجود فوتوغرافييْن شهيرَيْن في باريس، مايْبرج وماري، وقد كان ديغاز على صلة وثيقة بهما، كان يفضل القبض على الحركة بعين نافذة، وفرشاة ماهرة، إلا أنه مع تقدم العمر والتجربة صار أكثر طواعية لهذا الفن، حتى أنه اقتنى كاميرا، ومارس التصوير بنفسه. كان الفوتوغرافي مايْبرج انكليزياً تجريبياً ونظرياً، وخاصة بشأن طبيعة الحركة لدى الإنسان والحيوان، التي وضع لها آلاف الصور، وبعض الأفلام. وإلى جانبه كان الفوتوغرافي ماري الفرنسي الذي يرى «أن الحركة هي أبرز المميزات الظاهرة للحياة». ولقد أنضج الفكرة عبر كتب عديدة، وتقنيات كاميرا كانت من تصميمه، حاول دراسة الحركة فيها عبر ملاحقة رقص الباليه وراقصاته. وكان ديغاز على مقربة من كل هذا. المعرض في قاعات عشر تبدأ بمقدمة، وتنتهي «بكودا»، شأن العمل الموسيقي. المقدمة تعريفية بشأن ديغاز، والحركة والفوتوغراف. والخاتمة تنصرف إلى ديغاز الشيخ، الذي كان حروناً طوال عمره. فقد حرص أحد مخرجي الأفلام، وكان قد أنجز تسجيلات مع عدد من الفنانين، أن يسجل مشاهد من حياة ديغاز، ولكن الأخير رفض بشكل قاطع، الأمر الذي اضطر المخرج أن يختبئ في ركن من شارع، من أجل أن يلتقط ثواني من الفنان الشيخ. وكانت لقطة تليق بخاتمة مؤثرة لمعرض. لم يغادر باريس، وله صحبة عميقة واحدة مع الرسام «مانيه»، كان حريصاً على عزلته في محتَرفه، ويضيق بالتباهي النزاع إلى النجومية. لا يرسم تحت طائلة تكليف، وخاصة في فن البورتريت. ينفرد دون فناني جيله بالولع في استخدام ألوان الباستيل، التي تخلف على الورق نسيجاً لا تقدر عليه ألوان الزيت. تضرر بصره في معترك الدفاع عن باريس ضد الجيش البروسي عام 1870. شارك الانطباعيين في أول معارضهم، ولكنه لم يكن واحداً منهم. كان الانطباعيون يخرجون إلى الضوء خارج الاستوديو، يلاحقون زمناً متسارعاً بتسارع فرشاتهم، طمعاً بالقبض على اللحظة الهاربة، وتثبيتها على «الكانفس». في حين كان ديغاز يحرص على ملاحقة «الحركة» داخل كواليس المسرح، أو مخادع السيدات، أو الاستوديو.
توابل
القبض على الحركة باللون
29-09-2011