إذا كان سلوك السلطات التعليمية حيال التلميذ المصري باسم محمد فتحي، الذي تم فصله من إحدى مدارس الكويت، لأنه "سأل معلمته: لماذا لا تقومون بثورة في بلدكم؟"، لا يمكن تفهمه أو تقبله ببساطة، فإن سلوك الطفل، ذي السنوات العشر، ذاته يمكن فهمه بسهولة.

Ad

بحسب صحيفة "الراي"، فإن الطفل المذكور اُتهم من قبل المدرسة الابتدائية التي يدرس فيها بأنه "يحرض زملاءه على الثورة"، وهو الأمر الذي أدى إلى فصله، رغم محاولات والده إلغاء هذا القرار، باعتبار أن التلميذ "مجرد طفل يتحدث عن الثورة التي يسمع بأخبارها في موطنه، فتشغله وتخلب لبه".

يجب ألا يكون رد الفعل على هذا السؤال الطفولي من قبل التلميذ الصغير قراراً عنيفاً بإقصائه عن التعليم، ويجب أيضاً ألا نغفل السبب وراء تحمس أطفال وكبار للأعمال الثورية في أكثر من بلد عربي، في أعقاب نجاح الإطاحة بالرئيسين زين العابدين بن علي وحسني مبارك.

قبل أسابيع قليلة أخبرتني ابنتي أن بعض زملائها في المدرسة حاولوا تنظيم احتجاج، وأنهم قدموا عريضة بمطالبهم إلى الإدارة، تضمنت ما يلي: تشغيل صالة «تنس الطاولة» و«البلياردو» أثناء فترة «الفسحة»، وانتهاء اليوم الدراسي عند الواحدة والنصف ظهراً، وعدم حرمان بعض التلاميذ من حضور حصص «الألعاب»، كنوع من العقاب لهم لتقاعسهم فى إعداد الواجبات، وتنظيم دوري لكرة القدم، وتخفيض أسعار السلع في مقصف المدرسة، وزيادة جودة الزي المدرسي، وتخصيص خزانة خاصة لكل تلميذ.

لم يتوقف التلاميذ الصغار الذين يدرسون في المرحلة الإعدادية عند تلك الطلبات فقط، ولكنهم هددوا بالاعتصام في حال لم تتم الاستجابة لطلباتهم، وطالبوا بإجراء حوار بينهم وبين الإدارة "في جو من الندية والتكافؤ"، لجدولة تنفيذ تلك المطالب.

لا يكاد يوم يمر في مصر إلا وثمة احتجاج أو اعتصام أو إضراب في إحدى المؤسسات التعليمية؛ فمرة يعتصم طلاب كلية لإطاحة العميد، ومرة يتجمهر طلاب معهد هندسي أمام مبنى وزارة التعليم العالي لمساواتهم بخريجي كليات الهندسة، بل إن ثمة من تظاهر واعتصم لتحويل القسم الذي يدرس به في إحدى الكليات إلى كلية قائمة بذاتها، أو لخفض المصروفات التي يدفعها.

ليت الأمر اقتصر على المؤسسات التعليمية فقط، فقبل ثلاثة أسابيع، أضرب الأطباء عن العمل في مستشفيات مصر على اختلاف أنواعها، لتحقيق مطالب فئوية خاصة، وتحسين الخدمات والإمكانات الصحية للمستشفيات العامة، وهو أمر خطير بالطبع، أحدث انقساماً داخل مجلس نقابة الأطباء، حتى أن نقيب الأطباء ذاته كان شديد المعارضة لذلك الإجراء، باعتباره "تخلياً عن الأساس الأخلاقي للمهنة، واستهانة بأرواح الناس وصحتهم"، لتحقيق أهداف فئوية.

في نهاية شهر أبريل الماضي، اندلعت تظاهرات عنيفة في أنحاء عدة في البلاد للمطالبة بمن قيل إنهن "سيدات مسيحيات أشهرن إسلامهن وتم احتجازهن بواسطة الكنيسة القبطية المصرية"، وفي موازاة تلك التظاهرات اندلعت احتجاجات تطالب بإلغاء قرار منع النقاب أثناء الامتحانات في مراحل التعليم المختلفة.

لكن شهر مايو شهد ما هو أغرب من تلك التظاهرات كلها في إطار ما سمي "جمعة الزحف"، فقد رأى "ناشطون" مصريون أن يحشدوا أعداداً كبيرة، ويعبروا إلى سيناء، وصولاً إلى الحدود مع فلسطين، للضغط على السلطات الإسرائيلية ورفع الحصار عن غزة توطئة لتحرير فلسطين.

وفي موازاة ذلك الزحف، كان المئات من "النشطاء" يتجهون من ميدان التحرير في وسط العاصمة إلى مقر السفارة الإسرائيلية في محافظة الجيزة، إذ تبادلوا رشق الحجارة مع قوات الأمن، وحاولوا اقتحام مبنى السفارة، بعدما طالبوا بطرد السفير فوراً.

كان هؤلاء النشطاء يتوجهون نحو السفارة الإسرائيلية، وآخرون يعبرون إلى سيناء لتحرير فلسطين، بينما آلاف الأقباط يعتصمون أياماً أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون، رافعين "الصلبان"، وطارحين عدداً من المطالب؛ منها ما يتعلق ببناء الكنائس، وعدم التمييز بين الأقباط والمسلمين في تولي الوظائف العامة.

قبل أسبوعين، نظمت القوى المدنية المستنيرة التي قامت بثورة 25 يناير، قبل أن تقفز عليها بعض التيارات الإسلامية وتحاول ركوبها، تظاهرة كبيرة في ميدان التحرير أُطلق عليها اسم "جمعة الغضب الثانية"، وهي الجمعة التي كانت لها أهمية كبيرة، لأنها قدمت برهاناً للداخل والخارج على الوجه المدني الديمقراطي للثورة المصرية، وعلى قدرة التيار الوطني الرئيس في البلاد على التعبير عن ذاته وصيانة الأهداف العليا للثورة.

كانت التظاهرة منظمة تنظيماً حسناً، وتم التوافق على إنهائها عند السادسة مساء، لكي يعود الميدان إلى طبيعته بعد توصيل الرسالة، لكن عشرات من "المتظاهرين" أصروا على الاعتصام والمبيت حتى تحقيق المطالب.

مساء الأربعاء الماضي، دعا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يدير شؤون البلاد، إلى لقاء مع شباب الثورة، لمناقشة الأفكار التي يطرحونها، والاستماع إلى مطالبهم، وتوضيح بعض المواقف التي تثير التساؤلات عن أداء الجيش والحكومة خلال الفترة الانتقالية.

وقد حضر اللقاء ممثلون لما قيل إنه 153 "ائتلافاً ثورياً"، من بينها على سبيل المثال: "ائتلاف العاملين في وزارة الزراعة"، و"ائتلاف العاملين المدنيين في الشرطة"، و"ائتلاف السلفيين في محافظة الشرقية"، وغيرها.

على أي حال، فقد فشل اللقاء تقريباً، ليس فقط لانسحاب أعضاء 11 ائتلافاً من الحاضرين احتجاجاً على "التهميش، وعدم الاستماع لمطالبهم، وعدم تنظيم الحوار، وحضور بعض فلول النظام السابق"، ولكن أيضاً لأن بعض الحاضرين حولوا الأمر إلى تقارع بالهتافات، ولم يمنحوا أعضاء المجلس العسكري الحاضرين الفرصة المناسبة للحديث.

الأمر ذاته تكرر مع حوارين قوميين تم تنظيمهما لتأطير النقاش العام في البلاد؛ إذ هيمنت الخلافات والملاسنات والانسحابات والهتافات والاتهامات بالخيانة ومحاولة سرقة الثورة، على النقاش.

ما زالت الثورة المصرية قادرة على إلهام الشعوب الراغبة في التخلص من الاستبداد والانتقال الديمقراطي الآمن إلى بناء دولة حداثية رشيدة، وما زال الثوار الحقيقيون في مصر يجتهدون لصيانة مكتسبات الثورة وحمايتها من الالتفاف عليها أو تفريغها من مضمونها، لكن "فائض الثورة" بات يطرح إشكالاً كبيراً.

يمكن بالطبع فهم "السلوك الثوري" لتلميذ صغير، أو طلاب معهد أو جامعة، أو موظفي هيئة أو مصلحة حكومية، بسبب "فائض الثورة" الذي يدفعهم إلى الحماس والرغبة في التعبير عن الذات ونبذ الخوف والسكوت عن الحق. لكن ما يبعث على القلق أن يهيمن "فائض الثورة" على المجال العام في مصر، فيأخذ البلد إلى الأهداف الصغيرة المتضاربة وغير المنطقية، ويصرفها عن الأولويات الجادة التي تحتاج إلى إدراكها الحكمة والجلد والصبر كما تحتاج إلى الشجاعة والحماس.

 

* كاتب مصري